مكب النفايات الإسرائيلي شمال عزون وباءٌ حقيقي يهدد البيئة وصحة أهالي المنطقة
رائد جمال موقدي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
عزون وجيوس شرق محافظة قلقيلية بلدتان فلسطينيتان لطالما اتصلتا مع بعضهما البعض بالخضرة والخير والماء، فكانتا أنشودتان من الريف الجميل زرعت بين ثناياهما سنابل الخير وحملت بجوفهما قطرات الحياة، لتحملا معا أيضا هما واحدا وألما كبيرا بعد أن ابتلع الاستيطان منذ أعوام أجزاءً كبيرة من أراضيهما المصادرة، حتى البيئة الخلابة هناك كانت وما زالت هدفا من قبل الاحتلال الذي سيطر على قطعة ارض تقع بين البلدتين حيث تم تحويلها في وقت لاحق إلى مكب للنفايات الإسرائيلية، بصورة مخالفة للقوانين البيئية، وباستهتار شديد بسلامة وأمن السكان الريفيين المحيطين بالمكب.
الكارثة بدأت عام 1980، عندما سيطر الاحتلال على خمسة دونمات مملوكة لأحد المواطنين من قرية جيوس تقع في الجهة الجنوبية الشرقية للقرية، تحديدا على حوض (رقم 2) بمحاذاة طريق طولكرم – قلقيلية الرئيس، حيث أوهم الاحتلال سكان المنطقة حينها، بأن الهدف من المصادرة هو لإقامة برج مراقبة عسكري تابع لجيش الاحتلال، حيث أن طبيعة المنطقة تمتاز بارتفاعها وسط غابة من أشجار الزيتون والينابيع المائية بصورة تبعث في الروح نسمات الراحة والانتعاش لشدة جمال المنطقة.
من طبيعة خضراء إلى مكب نفايات
يذكر انه في بداية شهر آذار من عام 1989 شهدت المنطقة بداية مأساة حقيقية بتحويل تلك القطعة من الأرض المصادرة إلى مكب للنفايات الإسرائيلية، حيث بدأت الشاحنات الإسرائيلية حينها وبوتيرة عالية بنقل كميات ضخمة من المخلفات الصناعية والكيميائية من المصانع الإسرائيلية المقامة داخل الخط الأخضر، ومن المستعمرات الاسرائيلية القريبة في وادي قانا إلى هذا المكب، وكانت هذه المخلفات، عبارة عن مواد سامة مسرطنة ومشعة ارتأت حكومة الاحتلال التخلص منها عن طريق تصديرها إلى خارج الخط الأخضر، وتحديدا إلى تلك المنطقة التي تعتبر واحدة من عشرات المناطق غير المعلن عنها والمنتشرة في الضفة، لتستخدم كمكب للنفايات الإسرائيلية.
هذه النفايات الخطرة التي ترفض دولة الاحتلال دفنها أو حتى التخلص منها داخل الخط الأخضر، تنقل إلى الضفة الغربية للتخلص منها بالشراكة مع بعض ضعاف النفوس من الفلسطينيين، دون الالتفات للكرامة الإنسانية أو الخطر الصحي الناجم عنها، بصورة تخالف القوانين البيئية الدولية في التعامل مع تلك المخلفات الصناعية والكيمائية، خاصة إذا علمنا أن إسرائيل ترفض الالتزام بميثاق بازل، الذي ينص على عدم نقل أي من المخلفات الكيمائية والمشعة خارج حدود الدول، حيث تبرر إسرائيل رفضها الالتزام بالاتفاقية، كون الضفة الغربية منطقة متنازع عليها ولا تعتبر دولة ذات سيادة، وهذا يعطيها الغطاء في التمادي بتدمير بيئة المنطقة والقضاء على كافة أشكال التنوع الحيوي هناك.
فالزائر إلى المنطقة، يرى بأم عينه حجم المأساة التي حلت في تلك البقعة الجغرافية، ويلاحظ كيف أن الاحتلال اعتمد أسلوب العشوائية واللامبالاة في التخلص من تلك النفايات دون حسيب أو رقيب، ودون أي اكتراث لخصوصية تلك المنطقة الخضراء، التي تعج بغابات الزيتون والقائمة فوق خزان مياه في باطن الأرض.
الشكوى لمن؟
ومع مرور الوقت والسنين، أخذت هذه النفايات بالتراكم والتكدس بوتيرة عالية، بواسطة عشرات الأطنان من النفايات المعدنية والكيمائية الإسرائيلية التي تنقل إلى المنطقة، حتى باتت تعد مصدرَ وباءٍ و تهديداً حقيقيا للكائنات الحية والبيئة والينابيع المائية برمتها في المنطقة، حيث يشار هنا إلى أن الاحتلال كان يمنع السكان الفلسطينيين خلال فترة استخدام المكب من مجرد الاقتراب من المكب تحت أسباب يسميها الاحتلال أمنية، فكان السكان هناك يراقبون بكل قلق شديد منظر الشاحنات الإسرائيلية، وهي تورد النفايات الصلبة غير المعروف تركيبتها وماهيتها، إلى تلك المنطقة الحساسة بالنسبة لسكان البلدتين.
من جهتها، تقدمت السلطات المحلية الفلسطينية في قرى عزون وجيوس وصير في بداية تسعينيات القرن الماضي، بشكاوى إلى ما تسمى الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية ضد هذا المكب، إلا أن سلطات الاحتلال لم تستجب للشكاوي، بحجة أن مكب النفايات يقع على بعد 2 كم عن المخطط الهيكلي لقرية جيوس، و1,5 كم عن المخطط الهيكلي لبلدة عزون.
ومع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1993، استأنفت المجالس القروية والبلدية بمساعدة وزارة الحكم المحلي حديثة التأسيس تقديم احتجاجات إلى سلطات الاحتلال مدعومة بنتائج دراسات وأبحاث علمية، حول التأثير السلبي للمكب على حياة البشر والكائنات الحية والمصادر الطبيعية في المنطقة، حيث وعدت سلطات الاحتلال في حينه، بالنظر في قضية المكب، إلا أنها استمرت في استخدام المكب حتى عام 2000، عندما امتلأ بالكامل بمئات الأطنان من النفايات الصلبة، والتي أخذت تلك المكبات شكل الجبل، بصورة، لم يعد معها المكب يستوعب المزيد من النفايات والمواد السامة والخطرة.
مصائب ما بعد المكب
بالرغم من أن الاحتلال توقف عن استخدام هذا المكب، إلا أن ذلك لا يعطي مؤشراً بأي حال من الأحوال على انتهاء المشكلة، فوجود المكب بحد ذاته يعتبر كارثة حقيقية تطال كافة جوانب الحياة في المنطقة، حيث اكتشف من قبل وزارة شؤون البيئة في عام 2001م، وجود 17 برميل معدني مطمور داخل المكب يحتوي في داخله على مواد كيمائية من ضمنها مواد محرمة دوليا، تؤثر بشكل مباشر على الغطاء النباتي والثروة الحيوانية في المنطقة، بالإضافة إلى أنها تؤثر مستقبلا على المياه الجوفية وكذلك على البيئة الخارجية بشكل عام، ومن بين هذه المواد السامة الاسبست، وفكتين، بيروكسين، بوتاسيوم عضوي، فتاليت، ميتوليت. وتقدر، حاليا، المخلفات السامة المتعددة الأشكال والأنواع في المكب، بمئات الأطنان.
بالإضافة إلى ذلك، فان لهذا المكب تأثير مباشر على بئر عزون الارتوازي الشمالي، والذي يضخ بقوة 103كوب/ ساعة، حيث يساهم هذا البئر بسد جزء كبير من حاجة البلدة من المياه، فعلى الرغم من تأكيد قسم صحة البيئة في مديرية صحة قلقيلية على تلوث البئر من الناحية البيولوجية -بسبب المخلفات المتخمرة الناتجة عن المكب، والتي تنزح إلى باطن الأرض لتطال المخزون المائي الجوفي- تقوم مديرية صحة قلقيلية كحل احترازي بعملية الكلوره للمياه للحد من التلوث البيولوجي، إلا أن هذا لا يعتبر كافيا فمكب النفايات، يحتوي على كميات كبيرة من العناصر المعدنية خاصة الحديد والرصاص والألمنيوم، وهذه المخلفات بعد تحللها على مدار الوقت سيكون لها تأثير واضح على التربة والمياه الجوفية هناك، ولا تمتلك وزارة الصحة الفلسطينية أي أجهزة لفحص هذا النوع من التلوث الكيميائي، و بالتالي لا يمكن التأكد بأن المياه نقية وخالية من أي نوع من الشوائب.
من جهة أخرى، تعتبر المخلفات البيولوجية والكيمائية المتخمرة الموجودة في المكب، ذات تأثير سلبي وخطير على التربة وعلى مزارع الزيتون المجاورة، حيث تجد هذه المخلفات طريقها إلى داخل أجزاء التربة لتساهم بشكل كبير في تلويث وزيادة سمية التربة، علاوة على تأثيرها على النباتات في المناطق المجاورة لهذا المكب، وللأسف الشديد لا توجد أي دراسة علمية أو حتى إمكانيات عملية من قبل مديرية زراعة قلقيلية، لدراسة ومعرفة تأثير تلك النفايات المتخمرة والتي تحوي في ثناياها على العديد من المواد المشعة والخطرة على الغطاء النباتي وخاصة أشجار الزيتون في محيط المكب. يا ترى لماذا هذا التقصير؟ ومن يتحمل هذه المسئولية؟.
كذلك الحال بالنسبة إلى الغازات المنبعثة من مكب النفايات نتيجة تخمر المخلفات الصناعية والكيمائية، وهي غاز الميثان ومشتقاته وأول أكسيد الكربون، حيث تنبعث تلك الغازات بشكل دوري منذ إقامة المكب حتى اليوم، والتي لها بالغ الأثر السلبي على صحة الإنسان، من خلال التسبب في العديد من الإمراض الصدرية، وارتفاع ضغط الدم والأمراض الجلدية، بسبب انتشار الحشرات بكثرة في المنطقة. ومن بين الأمراض الأخرى التي يعاني منها سكان القرى الحساسية في قصبات التنفس، قرحة المعدة وفقر الدم الناجم عن ارتفاع نسبة الكالسيوم في الماء.
عدا عن ذلك، فان وجود هذا المكب أدى إلى الانتشار الواسع للكلاب الضالة والخنازير البرية، التي تضّر بالمزروعات، وتبث الرعب والخوف في نفوس الأهالي في القرى المجاورة.
ما العمل للحد من هذا التلوث؟
في حديث خاص لمجلة أفاق البيئة والتنمية، أكد اللواء الطيار المتقاعد "احمد عمران" رئيس بلدية عزون، أن البلدية تقدمت بأكثر من طلب إلى مجلس النفايات الصلبة، لإيجاد حل جذري لهذه المعضلة المستعصية في المنطقة، إلا أن الرد تمثل دائماً بعدم وجود إمكانية لنقل مئات الأطنان من النفايات إلى مكب زهرة الفنجان، بسبب عدم توفر الميزانية الكافية، والحاجة إلى ترتيبات فنية تفوق قدرة مجلس النفايات الصلبة.
ويبقى السؤال هنا، ألا يحتاج هذا الخطر المحدق في بيئتنا وأولادنا إلى تكاتف الجهود الفلسطينية، للحد من المشكلة بدلا من أن يلقي كل طرف المسؤولية على الطرف الأخر، أين دور سلطة البيئة التي يفترض أن تكون حريصة على سلامة السكان والبيئة الفلسطينية في معالجة مشكلة هذا المكب؟ أين دور الإعلام في توضيح مخاطر وحقيقة هذه المكبات التي باتت تغزو بيئتنا وقرانا بشكل مخيف وغير معلن عنه، ترى من يتحمل النتائج الوخيمة على طعامنا وأولادنا عندما يحين وقت لا ينفع فيه الندم؟
|