مشفى المطلع... شامخ على ما تبقى من غطاء أخضر في القدس المحتلة
د. توفيق ناصر: الشجرة هي خط الدفاع الأول ... ونطمح لأن يتحول المشفى إلى قرية علاجية متكاملة
ربى عنبتاوي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يستحيل، ألاّ يلاحظ المقيم أو الزائر للقدس وضواحيها، معلم مستشفى المطلع التاريخي، أو لا يجذبه نمط المبنى غربي الطراز مع برجه العالي المخترق لوحة السماء الزرقاء، أو لا تأسره تلك الخضرة المفقودة في نواحي القدس الشرقية المتخمة بالزحف الأسمنتي، لأن المعلم الذي يحتفل هذا العام بمئويته الأولى، اقترن كل حجر فيه بزرع شجرة، فكانت وما زالت خط الدفاع الأول ضد التلوث، الاستيطان والكآبة.
زارت "آفاق البيئة والتنمية" منطقة مستشفى المطلع المقامة على أراضٍ تمتد مساحتها لأكثر من 160 دونماً وتعود ملكيتها للاتحاد اللوثري العالمي، وتتميز بما تحويه من شجر السرو والصنوبر والأرز والزيتون والنخيل. بحيث تأخذ المتجول من أجواء التلوث والضوضاء إلى جنان الطبيعة الساحرة، كما تمثل سداً منيعاً من زحف الاستيطان القادم من الجامعة العبرية شمالاً. من هناك تحدث المدير التنفيذي للمستشفى منذ 13 عاماً د. توفيق ناصر، الحاصل على دكتوراه في علوم المناعة والإدارة الصحية من الولايات المتحدة الأمريكية.
|
|
تاريخ عريق مغلف بالخضرة
تحدث ناصر بدايةً عن تاريخ مستشفى المطلع والتي جاء اسمها من منطقة أم الطلعات على جبل الزيتون، كونها الأعلى، والتي تتيح للمتواجد فيها رؤية كل أجزاء المدينة. هذه المنطقة -عودة للصور الفوتوغرافية يقول د.ناصر- كانت مكاناً جبلياً قاحلاً، واستناداً للتاريخ فيقال أن الزعيم الروماني تيتوس الذي دمّر الهيكل الثاني، قد استوطن هذا الجبل في 70 م . أما المبنى المعروف بأوغستا فكتوريا فقد تم المباشرة في بنائه أوائل القرن العشرين، حين كانت فلسطين تخضع للحكم العثماني، وكان من أحد اهتمامات الأتراك آنذاك، توطيد علاقاتهم مع حلفائهم الألمان، ما حدا بهم إلى الموافقة على بيع قطعة أرض كبيرة من المدينة المقدسة للقيصر الألماني وليم الثاني، الذي قرر بناء نزل للحجاج المسيحيين القادمين للأراضي المقدسة على جزء منها، والذي انتهى من بنائه عام 1910، وقد سماه على اسم زوجته الفاضلة أوغستا فكتوريا.
|
|
ويضيف ناصر: " تم استعمال المبنى كمنزل ومنتجع للحجاج لأربع سنوات فقط، ومن ثم تحول إلى مقر للجيش التركي بقيادة جمال باشا إبان الحرب العالمية الأولى. وقد خدم هذا البناء الكثير من الأهداف فقد كان مقراً للحكم البريطاني لفترة قصيرة. وفي ذلك الوقت زاره الأمير عبد الله الأول بن الحسين كي يتسلم ولاية شرقي الأردن من وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل الذي كان في زيارة للبلاد في تلك الفترة، وكانت مكاتب الانتداب البريطاني تقع في المستشفى. وقد حضر الاجتماع كل من الجنرال اللنبي ولورنس العرب، وما زال المستشفى يحتفظ بالغرف الأصلية التي تم فيها الاجتماع الشهير والذي نتج عنه ولادة المملكة الأردنية الهاشمية.
وقد كانت المستشفى عام 1910، أول مبنى في الشرق الأوسط يمد فيه شبكة كهرباء تعمل على مولد خاص، ما يعد سابقة في ذلك العصر.
وعقب النكبة في عام 1948 وبمبادرة من الكونت برنادوت استعمل الصليب الأحمر المبنى كمستشفى للاجئين الفلسطينيين. وفي عام 1950 تسلمه الاتحاد اللوثري العالمي وحولّه بالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين إلى مستشفى، وما زال المستشفى حتى اليوم أحد العناوين المهمة لتقديم الخدمة الصحية للاجئين الفلسطينيين بشكل خاص وللشعب الفلسطيني بشكل عام. وقد تعرض المستشفى للقصف عام 1967 ودُمر الطابق العلوي بأكمله ولكن تم إعادة ترميمه عام 1986م.
التشجير جنباً إلى جنب مع البناء
ويضيف ناصر، إن التشجير بدأ مع عملية البناء، حيث أكمل البريطانيون ما بدأه الألمان، لاعتياد الغربيين إجمالا على الطبيعة الخضراء، وحاجة المبنى الذي أصبح مستشفىً لاحقاً يحوي 164 سريراً إلى منتجع مبهج ومريح للمرضى. كما أضيف للمنطقة في السبعينيات 800 شجرة زيتون، وذلك خوفاً من مصادرة الأرض من قبل الإسرائيليين بحجة عدم استغلالها. وقد زرع أيضاً في الجهة المقابلة للمستشفى كروم عنب.
" هناك مشهد طريف على شجرات الأرز في المطلع، حيث يبدو مقطعها العلوي مستعرضاً، وذلك نتيجة قص الجزء العلوي المثلث، لاستخدامه كشجرة زينة لعيد الميلاد". استطرد ناصر
|
|
انجازات بيئية
وقد وظّف الاتحاد اللوثري العالمي خيرة الأطباء الفلسطينيين، لكنه ترك الإدارة للأجانب، لحين جاء ناصر عام 1997 فشهد المطلع تغييرات عديدة في عهده على الصعيد الطبي، حيث تم تأسيس وحدات: غسيل الكلى، علاج السرطان وجراحة الأنف، الأذن والحنجرة. أمّا على الصعيد البيئي فكان على سبيل المثال: تجهيز البنية التحتية في المبنى الجديد والتي اعتمدت على تقنية فصل مياه الصرف الصحي عن مياه الاستخدام العادي، بحيث تحوّل "المياه الرمادية" المعالجة لاستخدامات الري، كما تم تغيير المواسير القديمة بأخرى جديدة، ما حسّن من نوعية المياه، ورممت الآبار القديمة لتؤمّن مياهاً بمواصفات صحية تكفي المستشفى في حال قُطع خط المياه الأساسي، لثلاثة أيام كاملة.
وعن الغطاء النباتي في المنطقة، أشار ناصر إلى أن لكل شجرة قيمة وكيان، فان اضطر المستشفى لإزالة شجرة لأعمال إنشائية معينة، فلا تلقى بعيداً، بل تزرع في مكان آخر، أما الشجر الذي يصعب زرعه مرة أخرى، مثل السرو والصنوبر، فيزرع بدلاً منه، بحيث لا ينقص عدد الشجر، وأضاف ناصر، أن لديهم مزارعين يهتمون بالأشجار والحدائق من أجل المظهر العام الذي يساهم فيه أيضاً عمال نظافة ومتطوعون أجانب، عدا عن التعاقد مع شركة تنظيف تهتم بالمستشفى ومحيطها.
نحو قرية علاجية نموذجية
كما يبحث ناصر مع المانحين استغلال الطبيعة الخاصة بمستشفى المطلع كجزء من العلاج، وخاصة لمرضى السرطان، بحيث يكون جزءٌ من العلاج في أكناف الطبيعة، بعيدا عن الجدران الخانقة وكآبة التجهيزات الطبية في الغرف، بحيث يتنزه المريض في الطبيعة، ويصله الطاقم المعالج إلى حيث يجلس تحت شجرة لوحده أو مع أسرته، ولكن الأمر يحتاج إلى تجهيزات هندسية خاصة لسهولة وصول الطاقم الطبي بمعداته. كما يفكر ناصر في بناء مقاعد حجرية وتكثيف الشجر ليكون ساترا ذو خصوصية لكل متعالج، والتخطيط لشارع بنورامي بحيث يرى المتنزه الجغرافيا والطبيعة من أمامه.
فصل المخلفات الطبية غاية تحققت
وحين جاء ناصر عام 1997، تفاجأ من أن المخلفات الطبية لا تفصل بل تخلط مع بعضها البعض وتلقى بعيداً، فتصرف من جهته فوراً نحو ترسيخ آلية فصل للمخلفات الطبية، بحيث تجمع في صناديق منفصلة، وترسل نهاية كل أسبوع، بالتنسيق مع شركة إسرائيلية متخصصة في هذا المجال.
المؤسف لناصر حين استلم الإدارة، هو اكتشافه ان الأعضاء المستأصلة من المرضى تدفن في أرض المستشفى، ما جذب بعض الكلاب الضالة والغربان للنبش في التربة، الأمر الذي أثار لديه الذعر ودعاه لضرورة التحرك نحو فصل المخلفات منذ تلك اللحظة وللأبد. مشيراً إلى انه رفض مشروعاً دينماركياً اقترح في السابق جمع النفايات المخلوطة، وحرقها تحت الأرض بعد ان تضغط، وذلك لما سيسببه من أضرار ناجمة عن السموم المتناثرة في الهواء.
"للأسف تنعدم لدى كثير من الناس ثقافة الإبداع، بمعنى أن الإنسان المبدع لا يحرق ورقة، ولا يلقي نفايات على الأرض، أو يترك شاشة الجرح في رواق المستشفى، ما يسبب في هدر أموال للحفاظ على النظافة، ما يعني نفقات إضافية تجاوزها العالم المتقدم منذ سنوات" انتقد ناصر.
طابع بيئي خاص يتفوق على مستشفيات الاحتلال
يرى ناصر المطلع ذات طابع بيئي خاص وفريد، ومع أنه لا يحبذ المقارنة مع المستشفيات الأخرى، إلا أنه يرى المطلع الأفضل بيئياً بشهادة المرضى، الذين يجدون بالحدائق المشجرة الممتدة على مرأى أبصارهم ملاذاَ لهم من ذكرى سرير المرض، وخاصة أولئك من مرضى السرطان، السكري والكلى، بحيث يخلقون علاقة انسجام بينهم وبين المستشفى. وعن المستشفيات الإسرائيلية يقول ناصر، أنها ما زالت تتعامل مع الطب وكأنه تكنولوجيا حديثة وتقدم طبي مذهل وعمارات ضخمة ومساحات طبية واسعة Biomedical ، دون الاكتراث للبيئة الخضراء والمتنزهات حول المستشفى. عكس المطلع التي انسجمت منذ البداية مع المفهوم psych- biomedical ، فكانت قرية علاجية بالمعنى النفسي والطبي.
لم يبق أحد لم يطالب بالمطلع وما حولها
كون المطلع هي المساحة الخضراء (الغابة) المتبقية في القدس المتخمة بالاسمنت والاستيطان، فعليها أطماع من جهات عدة، حيث يقول ناصر: "كانت وما زالت محط أنظار الاحتلال منذ بداية وجوده، كونها منطقة إستراتيجية أولى، وهي الخط الفاصل بين منطقة الجامعة العبرية المهودة ومنطقة جبل الزيتون العربية، فبقاء المطلع هو السد المنيع أمام زحف الاستيطان".
يذكر ناصر زيارة ادوارد سعيد التاريخية للمستشفى في اليوم الذي جاء فيه لحضور جنازة إبراهيم أبو لغد في يافا، حيث تجول في أروقة المستشفى، وكان حزيناً بعد الزيارة، إذا تفاجأ في حقيقة أنه: "لم يبق من القدس إلا الفتات".
علاقة ارتباط وثيقة لـ13 عاماً وأكثر
ويلفت ناصر إلى محمية المطلع الصغيرة والتي تحوي عدا الشجر والنباتات، طيور الهدهد والزريق والدويري، والثعابين غير السامة والقنافذ والسلاحف.
ناصر الذي ولد في المطلع، يقول أنها طفرة في الإبداع، للتطور الذي وصلت إليه طبياً وعلاجياً ونفسياً واجتماعياً، كما أنها تقوم بحملات توعية وجولات فحوصات مجانية مبكرة للثدي والسكري في القرى والمناطق الفلسطينية النائية.
وعن المستشفى وبعد علاقة ارتباط لأكثر من 12 عاماً، يتمنى ناصر أن يراها في المستقبل القريب قرية علاجية أولى، ذات بنية تحتية كاملة تستغل المياه الرمادية، ومؤسسة فلسطينية شامخة ضد التهويد والاستيطان.
|