بعد أن كانت تعج بالحياة، أصبحت مدن أشباح
الرام وبيرنبالا خاويتان من المقدسيين الذين هجروهما إلى علب مستأجرة داخل القدس
ر. ع .
خاص بآفاق البيئة والتنمية
لم تعتقد دعاء يوماً، بأن بيتها الجميل والواسع والمؤثث بأرقى الفرش، والمملوء بالتحف المنتقاة بعناية، سيضحي مهجوراً بعد ثلاث سنوات من شرائه عام 2002، حيث سكنته وهي عروس ترى فيه بيت العائلة، فبعد بناء الجدار الفاصل وعزله لمدينة الرام عن القدس، صار من المستحيل البقاء في البيت الذي أصبحت مغادرته أو العودة إليه أمراً مرهقاً يستهلك الوقت والجهد والصحة، عدا عن انتقاصه من الكرامة الإنسانية وخاصةً لدى عبور حاجز قلنديا العسكري، والإذلال عند طابور الانتظار.
أمر واقع أضطر دعاء وأسرتها إلى النزوح لمنزل أم زوجها (حماتها) في أحد ضواحي القدس، نظراً لصعوبة إيجاد بيت للإيجار داخل القدس، لتقيم هي وزوجها وطفليها في خمسين متراً مربعاً. التحول كان صادماً وخاصةً لدعاء حيث تقول: "ربة المنزل تحتاج إلى خصوصية وأنا فقدتها بالسكن مع أم زوجي، كما ان البيت وأثاثه قديمان، والطريق إلى البيت في الحوش السكني، تتطلب اجتياز درجات زقاق طويل، أمور تشعرني دائماً بعدم الرضا والخوف من استمرار هذا الحال. وأضافت دعاء: " ألوم الاحتلال الذي سرق أحلامنا وانتزع الاستقرار من أسرتنا".
منتجع بلا زوار ولصوص يسرحون ويمرحون
ومن بلدة بيرنبالا التي تمّلكت فيها مئات العائلات المقدسية البيوت والعقارات، قال ابن صاحب منتجع النبالي السياحي "محمود صالحة" -الذي أصبح اسماً على غير مسمى، بعد أن هجر مئات السكان المدينة، فملأ الغبار أجزاءه- أن فكرة تأسيس المنتجع كانت بعد أن تفاءلت العائلة من إيراد قاعة أفراح تملكها، فقرر والده عام 2004 أن يستثمر أمواله بمنتجع يشمل مطعماً وقاعة أفراح وملاهٍ للأطفال وزاوية حلويات شرقية، فبنى منتجع النبالي ووظف فيه 70 موظفاً، حيث اعتقدت عائلة صالحة أن المنتجع سيجذب سكان بيرنبالا والرام والقدس ولكن الحواجز والجدار فيما بعد والظروف السياسية كانت عوامل طرد، ففشل مشروع المنتجع وتكبد صالحة خسائراً كبيرة، كما اضطر إلى صرف العمال السبعين.
محمود الابن الذي يأمل باحياءة للمدينة بعد نومها في سبات العزلة، يقول: "المنتجع اليوم يكاد يكون مهجوراً إلا من بعد حفلات الزفاف التي تنظم في قاعته بأبخس الأسعار(7 آلاف شيقل) تشمل القاعة والتصوير والورد و"الدي جي".
كما تجذب العزلة في مدينتي الرام وبيرنبالا اللصوص ممن يستغلون غياب سلطة القانون وعدم وجود شرطة في المكان حيث تعرض ريان عبوشي، صاحب صيدلية في بيرنبالا، إلى عملية سرقة (قبل يومين من إجراء المقابلة) خسّرته ما يقارب الـ 10 آلاف شيقل، يقول بدايةً عن وضع بيرنبالا: "فتحت الصيدلية عام 2000 لأن وضع المدينة كان جيداً، ولكن تبدلت الأمور وساهم الحاجز على مدخل بيرنبالا في ترحيل العديد من المستأجرين من شمال وجنوب الوطن، كما ساهم الجدار في ترحيل المقدسيين من بيوتهم، فقلّ عدد السكان ما أثر علينا بشكل فظيع".
ولكن إزالة الحاجز الفاصل بين رام الله وبيرنبالا عام 2008، يضيف عبوشي، أعاد بعض المستأجرين إلاّ انه لم يعد المقدسيين المتواجدين خلف الجدار، ويصف الوضع بالأفضل من ذي قبل، لكنه لا يبشر بالكثير ما دامت المدينة منتهكة من اللصوص الذين يعبثون بأملاك السكان الموجودين أو الغائبين.
"التحقيقات في سرقة الصيدلية من قبل الشرطة الفلسطينية، لم تعط أي أمل في القبض على اللصوص، والعوض من عند الله" ختم عبوشي.
سلخ القدس عن قراها
دعاء ومحمود وريّان، قصص حدثت وتستمر في الرام وقرى معزل شمال غرب القدس (بيرنبالا، الجيب، بيت حنينا القديمة، الجديرة) ففي دراسة أعدها مركز العمل التنموي معاً، أيار 2007 تحت عنوان "المدن والقرى الفلسطينية بين العزل والشريد" تم الإشارة إلى أن تلك القرى كانت تتبع إداريا لمدينة القدس، إلا أن سلطات الاحتلال فصلتهم عنها سياسيا وإداريا بعد احتلالها للضفة الغربية عام 1967، ولكن من الناحية العملية بقي سكان هذه القرى يعتمدون على مدينة القدس ويعتبرونها مركزا لخدماتهم وسوقا لمنتجاتهم، كما ان موقع هذه القرى المتوسط بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، جعلها نقطة جذب لمئات المستثمرين من القدس وغزة والضفة على حد سواء، حيث فتحوا فيها مئات الورش والمتاجر وكراجات تصليح السيارات، إضافة إلى مصانع ومحلات مواد البناء والدهان، وبعض الشركات والمكاتب التجارية بالإضافة إلى العقارات، وبالتالي فقد شهدت هذه القرى حركة واسعة بين القدس والضفة وسكن فيها مئات المواطنين للعمل من مختلف مواقع الضفة الغربية، وبالرغم من ان النشاط الاقتصادي تركز في بلدتي بيرنبالا والرام، إلاّ ان القرى الأخرى قد استفادت من هذه الحركة النشطة إلى حد ما، حيث انتقل إليها عدد لا باس به من المقدسيين وسكان الضفة الغربية نظراً لقربها من القدس.
ولكن في عام 2004 بدأت سلطات الاحتلال بإقامة مقطع الجدار الواقع وسط الشارع الرئيسي القدس رام الله في بلدة الرام، مدمرة بذلك المدخل الشمالي الشرقي لهذه القرى، والذي يصلهم بالرام والقدس مما أدى إلى عزلهم عن مراكز الخدمات ومركز النشاط الاقتصادي في الرام والقدس.
من جهة أخرى، أصدرت سلطات الاحتلال عام 2005 أوامر عسكرية تقتضي بمصادرة مئات الدونمات من قرى شمال غرب القدس لإقامة جدار الفصل العنصري حولها، ومن ثم باشرت بإقامة الجدار وطوقتها من جميع الجهات فيما أبقت لهم منفذا وحيدا في الجهة الشمالية الغربية يصلهم بمدينة رام الله، وهذا المنفذ عبارة عن نفق يقع تحت الشارع الاستيطاني رقم 443، وهو مزود بالأبراج العسكرية والكتل الإسمنتية وحاجز تفتيش( أزيل الحاجز عام 2008).
قطع الطرق والأرزاق
وبإغلاق المدخل الرئيسي الواقع وسط الرام وتطويقها بالجدار، يضطر سكان هذه القرى إلى السفر حوالي14 كم، للوصول إلى الرام والقدس بدل 1-2 كم، وهي المسافة التي كانوا يقطعونها عبر المدخل القديم وبالتالي تفاقمت الأزمة التجارية في البلدة وخرج من تبقى من أصحاب الورش والمحلات التجارية ومن بين 2000 مواطن ممن يحملون الهوية المقدسية بقي حالياً ما لا يزيد عن 200 مقدسي في بلدة بيرنبالا، وبالتالي فقد انخفضت أسعار الشقق السكنية والمحلات التجارية، من 250 ديناراً أردني شهريا قبل الانتفاضة إلى اقل من 80 دينارا أردنيا في الوقت الحالي، أما المحلات التي لم يغلقها أصحابها فقد أصبحت تعاني من ركود حاد وحركة معدومة.
وقال مسؤول الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس خليل تفكجي: "وضع بيرنبالا والرام يثير الحزن، حيث عزلت البلدتان عن امتدادهما الطبيعي مع القدس، فالوصول إلى الرام يتطلب المرور بأزمة مواصلات فظيعة فهي على تماس مباشر مع حاجز قلنديا العسكري، عدا عن ملاصقتها للجدار الفاصل، أما بيرنبالا فالوصول إليها يتطلب المرور من رام الله أولاً، بعد أن كان لا يستغرق إلاّ دقائق معدودة من القدس، ما زاد الوقت المستغرق والجهد وعزل المدينة.
استبدال المواطن بمستوطن
وعن العبث باستقرار الفلسطينيين وإخضاعهم لسياسات الفصل العنصري والذل والتهجير الصامت تحدث مدير مركز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في القدس زياد حموري، حيث قال: "ان وظيفة الاحتلال بالدرجة الأولى هي القضاء على أحلام الناس، والضغط عليهم من أجل تحقيق أهدافه الاستعمارية والعنصرية، فهذا الاحتلال الذي يختلف عن كل احتلالات فلسطين على مدى العصور، يسعى في نهاية المطاف إلى استبدال المواطن بمستوطن".
وحول القانون الدولي الخاص بحقوق الإنسان والذي يُلزم إسرائيل باحترام حق سكان الأراضي المحتلة في حرية الحركة والتنقل داخل الأراضي المحتلة، أكّد الحموري أن الإسرائيليين يضربون عرض الحائط بالقوانين الدولية، حيث أن هناك العديد منها يدين ما يجري في القدس من عقوبات جماعية وهدم بيوت وسحب هويات، ولكن سياسة إسرائيل وأمنها المزعوم، فوق كل قوانين العالم.
"سحبت الحكومة الإسرائيلية في عام 2008 ما يزيد عن 4700 بطاقة هوية مقدسية، ما يعتبر تصعيداً خطيراً، ومؤشراً على المخطط الإسرائيلي المعلن بقدس شرقية بأغلبية يهودية (نصف مليون) وأقلية فلسطينية بما لا يزيد عن 70 ألف مقيم مقدسي" ذكر الحموري
وتشاءم الحموري من وجود أي أمل بإزالة الجدار الفاصل وفتح القدس على الضفة الغربية، حيث أن عودة الاستقرار والحياة الطبيعية للمواطن المقدسي لا تنسجم مع مخططات الاحتلال الهادفة إلى هدم الأسرة والاقتصاد والمستقبل.
أمل بنفق يصل بيرنبالا بالرام
وعودة إلى بيرنبالا، اشتكى عبد الله عرفة، صاحب مكتبة سديل، من الخسائر التي تكبدها محله بعد أن فقد زبائنه من القدس ورام الله وفلسطين الداخل، مشيراً إلى أن حجم مكتبته الضخم لم يعد يتناسب مع احتياجات سكان بيرنبالا، نافياً أن يكون الحل هو استئجار نفس مساحة المكتبة في رام الله، فالأمر مكلف جداً نظراً لغلاء الإيجارات واشتراط دفع (خلو رجل). لكنه عاد وتفاءل من أخبار أخيرة تشير إلى إمكانية فتح نفق يربط بين الرام وبيرنبالا قد ينعش البلدة في حال تم تنفيذه.
وحول إشاعة النفق نفى التفكجي تماماً نية إسرائيل إقامة نفق يربط بين الرام وبيرنبالا، قائلاً إن هذه إشاعات يطلقها أصحاب الأراضي في المنطقة من أجل رفع أسعارها، وليس لها أي أساس من الصحة، وتهكم التفكجي قائلاً:" هل إسرائيل معنية بإنعاش اقتصاد بيرنبالا و الرام!".
|