حي المنشية في يافا
ذكريات لا تطمرها الأسرلة

علاء أبو ضهير / يافا قديماً ونابلس اليوم
ما أن وصلنا مدخل مدينة يافا حتى قال والدي: نحن الآن نسير على أراضي حي المنشية، وطلب من السائق التوقف. هناك والبحر على مرأى عيوننا، أخبرنا السائق أن بعض مناطق السباحة لا ُيرحب فيها بالمواطنين الفلسطينيين، فطلبنا منه البحث عن أماكن يمكننا السباحة فيها على مبعدة من الإسرائيليين. فأنزلنا في منطقة قريبة من مسجد حسن بيك، هذا المسجد الذي كان معلماً هاماً من معالم حي المنشية في مدينة يافا. سرنا بمحاذاة الشاطئ للبحث عن مكان مناسب لنا ولإتاحة الفرصة للأطفال الذين اصطحبناهم للسباحة في بحر يافا بعد أربعة أشهر من انتظارهم صدور التصاريح من إدارة الاحتلال.
عند الشاطئ، شاهدنا بضعة مظلات خشبية كبيرة، كانت إحداها خالية من المستجمين، أشرت إلى أهلي الذين كانوا على مسافة بضعة أمتار بالنزول إلى الشاطئ. جلسنا إلى جوار عائلات إسرائيلية، كانت المظلات تأوي مستجمين إسرائيليين يستريحون على شاطئ منشية يافا. بدا على والدي الانزعاج بسبب ترددي الجلوس للحظة بين الإسرائيليين. والدي الذي كان يجري بعض الحسابات الجغرافية قال: نحن نجلس في المنطقة التي كانت شاطئ حي المنشية قبل النكبة، نحن نخيم الآن في حارتنا، خذوا راحتكم، ووجه حديثه لأحفاده الخمسة قائلاً: اسبحوا، فهنا سبحت حين كنت في عمركم، هنا ولد جدكم. ثم أخرج بعض المكسرات وبدأ يأكلها بكل ثقة، حينها فقط، تخلصت من التوتر. جلسنا على الرمال بينما أسرع الأطفال للعب في مياه بحر يافا.
ذكريات حي المنسية
لم يتم هدم حي المنشية إلا بعد نكسة عام 1967، أي بعد تسعة عشر عاماً من ترحيل أهل الحي، وذلك بعد أن تأكد الإسرائيليون أن سكان البلاد الأصليين، لن يعودوا إليها بعد أن انكسرت شوكتهم في حرب حزيران واحتلال بقية فلسطين، بل أخبرني أحدهم أن منازل الحي بقيت كما هي طيلة التسعة عشر عاماً المذكورة، ليتم بعد ذلك تدميرها عن بكرة أبيها ودفع ركام هذه البيوت إلى الشاطئ المحاذي، ودفنها تحت الأرض ليبنى شارع جديد فوقها ويتم بناء الفنادق الفخمة عليها لاحقاً. أشار والدي لنا بهذا الأمر حين قدر المسافة الممتدة بين مسجد حسن بيك والشاطئ، تلك المسافة التي اتسعت قليلاً بعد هذه التوسعة.
في ذلك اليوم، قال لنا أحد سكان المنشية: "لو حفرنا تحت هذا الشارع لوجدنا أواني الطبخ الخاصة بسكان المنشية قبل النكبة تماما كما يجد المنقبون في الآثار قطعاً فخارية ومعدنية تعود لحقب تاريخية قديمة، بالإضافة إلى الكثير من ممتلكات المنازل التي تم هدمها ودفنها تحت التراب" .
ما إن استقر بنا المقام تحت تلك المظلة حتى سارع والدي بالذهاب إلى مسجد حسن بيك المجاور، يبتعد المسجد بضعة مئات من الأمتار عن وسط مدينة يافا وتحيط به مبانٍ إسرائيلية، يقع المسجد في حي المنشية سابقا والذي أصبح مليئا بالفنادق الضخمة المنتشرة بين تل أبيب ويافا. مشيت وراء والدي الذي كان مسرعا، كان يعدو كمن يرغب باستثمار كل لحظة من الوقت، سرنا معه للاستماع إلى ما سيقوله عن تلك المنطقة وذلك الحي الذي ولد فيه قبل أكثر من سبعة عقود، ُترى ماذا سيحل بنا حين لا يبقى لدينا على قيد الحياة أحد ممن ولدوا في ذلك الجزء من الوطن؟ من سيحفظ الذاكرة؟ ومن سينقلها إلى الجيل الآخر!
دخلنا مسجد حسن بيك، وجدنا مجموعة من الرجال يجلسون في مدخل المسجد لتناول القهوة وتبادل أطراف الحديث، استقبلونا بكل حفاوة، كانوا مجموعة من السائقين الفلسطينيين من أهل يافا، اتفقوا منذ عدة سنوات على الاجتماع يومياً في المسجد لحمايته ولتعزيز التواجد العربي فيه، خاصة بعد أن قام متطرفون إسرائيليون بإلقاء رأس خنزير في باحة المسجد قبل عدة سنوات إرهاباً للمصلين وتشجيعاً لهم على الرحيل، قال لنا بعض السائقين أن هذا المسجد هو المعلم الوحيد المتبقي من حي المنشية، الذي كان حياً كبيراً يقطنه آلاف الفلسطينيين، حتى تم هدمه عن بكرة أبيه ولم يبق منه سوى هذا المسجد.
ما إن بدأ والدي حديثه مع السائقين حتى بادرت بتشغيل كاميرا الفيديو التي بحوزتي واستأنفت جمع الروايات من هؤلاء السكان، الذين أخبرونا أن معظم أهل يافا الحاليون لا ينحدرون من عائلات يافاوية، بل هم سكان تم جمعهم في يافا من مناطق عربية مختلفة بعد أن هجّر سكانها في النكبة.

تفيض الذكريات مع ما تبقى من حي المنشية
كان حي المنشية حياً مكتظاً يمتد من قبالة البلدة القديمة بمحاذاة الجامع الكبير وحتى شارع الكرمل في تل ابيب، انهمرت الأسئلة من والدي على السائقين الذين دعونا لشرب القهوة، سألهم عن تلة دار بيدس التي اختفت واستبدلت بفندق إسرائيلي، وحي الجبالية الذي أصبح أثراً بعد عين. قال لنا أحد السائقين إن حي المنشية نفسه قد اختفى ولم يبق منه سوى هذا المسجد، مسجد حسن بيك، ليصبح شاهداً على زمن عربي مضى، ولم يبق من يافا العربية سوى حي العجمي ومركز المدينة وبعض الأحياء في البلدة القديمة.
يحتفظ المصلون داخل مسجد حسن بيك بصور للمراحل التي مرت بها عملية تدمير جميع منازل حي المنشية، مشاهد لا تمت بصلة لإقامة دولة جديدة بمقدار ما تشير إلى الهدف الأساسي المتمثل بإبادة وتدمير الوجود الفلسطيني في هذه المدينة.
ِسرنا مع والدي باتجاه سوق الكرمل، يعتبر هذا السوق من أجمل الأسواق التي تشبه إلى حد بعيد أسواق البلدة القديمة في مدينة نابلس، لكن ما يميزه هو كبر حجمه وتنوع السلع التي تباع فيه، الفواكه الصيفية الشهية، الخضروات، الملابس والسمك الحي وحتى الكنافة النابلسية التي يتم بيعها في محل يهودي. أكملنا طريقنا غير راغبين بكشف هويتنا للباعة ومضينا في هذا السوق ننظر إلى المخللات الشرقية والزيتون الشهي مختلف الأحجام والأشكال والألوان، فقدت البوصلة لوهلة من الزمن، شعرت أنني أسير في احد أسواق البلدة القديمة في مدينة دمشق، لكن سرعان ما استيقظت على المفردات العبرية التي ينادي بها الباعة الإسرائيليون المارة لترويج بضائعهم، جميل ان تسرح قليلاً، لكن الأهم ان تستيقظ على هذا الواقع ولو كان قبيحاً.
الاختراق الإسرائيلي لأصالة المكان الفلسطيني
حتى فن عمارة المنازل وهندستها تلفظهم، رأيت المنازل اليافاوية القديمة في لبلدة القديمة ذات الطراز العثماني الإسلامي، وقد بنيت مشربياتها وشرفاتها ونوافذها بطريقة تساعد المرأة العربية على رؤية الشارع، دون أن يتمكن من يسير في الشارع من رؤيتها، تماما كما هو الحال في البيوت الدمشقية القديمة أو النابلسية القديمة، بيوت تم بناؤها وفقا لطراز إسلامي يضع في اعتباره خصوصية ظروف حياة المرأة العربية حيث تم وضع ملامح الشخصية العربية الإسلامية المحافظة بعين الاعتبار حين تم تصميم وبناء البلدة القديمة في يافا قبل عدة قرون.
تساءلت حين شاهدت فتيات شقراوات يلبسن أجمل الفساتين المعاصرة التي تظهر الكثير من أجسادهن وهن يسرن في أزقة البلدة القديمة في يافا، ما هي هذه التركيبة المستحيلة، كيف ينسجم فن العمارة مع طبيعة السكان المهاجرين الجدد القادمين من روسيا وغيرها، فتيات اعتدن على لبس اللباس الغربي ولا يوجد ما يمنعهن من الحياة وفقاً لثقافتهن الغربية، ما الذي يربطهن بهذه الجدران القديمة وهذه البيوت العتيقة؟ نظرت إلى عتبات بعض تلك المنازل وأمعنت النظر في رقة ونعومة درجات البيوت، كانت أكثر نعومة من خد أي فتاة جميلة، مرت على هذه الدرجات أجيال كثيرة من أهل يافا، هامت هذه الأجيال على وجوهها في المنافي والقفار البعيدة في مخيمات الشتات و كل أصقاع العالم، لا شك أن كبار السن منهم لا زالوا يتذكرون منازلهم وعتباتها حيث كان الأطفال يلعبون، وحيث كانت النسوة تجلسن لتبادل أطراف الحديث، وحيث كان الباعة المتجولون يسيرون في الأزقة والطرقات، وحيث كان مسحّر رمضان ينادي على النائمين للاستيقاظ وتناول السحور.
وبينما كنا نسير في أزقة البلدة القديمة في مدينة يافا، شاهدنا أكثر من عروس وعريس يدخلون الأزقة لالتقاط الصور التذكارية في هذه الشوارع الضيقة والأزقة القديمة، ترى، ما هي علاقة هؤلاء الإسرائيليين بهذه البلدة القديمة وما هي ذكرياتهم فيها ليلتقطوا صورهم التذكارية معها!
رائحة الذكريات
قال لي والدي انه بعد نكسة عام 1967 قام باصطحاب شقيقه الأصغر العائد من الكويت في زيارة لمدينة يافا، وحين وصلوا إلى منطقة منزلهم تذكر عمي الحارة التي كان يسكنها وأستذكر عتبة منزل العائلة، بقي هذا المشهد عالقاً في ذهنه بقية عمره، تلك العتبة التي كان يجلس ويلعب عليها حين كان طفلا صغيراً. للحجارة والمنازل أرواح ونفوس لا تقل عن تلك التي يمتلكها البشر، لا شك أن منازل البلدة القديمة في يافا قد تم ترميمها لتصبح أكثر جمالا، لكن أزقة البلدة القديمة فيها وأدراجها تفتقر إلى صخب الحياة العربية ورائحة قدحة التومة اليافاوية للملوخية التي يفتخر بطبخها أهل يافا على طريقتهم المميزة، صحيح أن البلدة القديمة في يافا جميلة جداً لكن رائحة الطعام الغربي أضاعت هذه القيمة الجمالية، إن وجود هؤلاء المهاجرين الجدد في البلدة القديمة في يافا لا يمكن ان يكون طبيعيا لان حجارة البلدة القديمة أيضا تلفظهم.
حتى الآذان يزعجهم
وبينما كنا نسير في سوق الدرهلي في يافا، سمعنا صوتاً قوياً ينادي للآذان، قال والدي لا بد انه مسجد السكسك، فاتجهنا صوب الصوت ووجدنا مسجداً قديماً مهترئاً، قامت عائلة السكسك أيام البلاد ببنائه، وهي من عائلات يافا العريقة، فوجئنا حين دخلناه أنه قد يشبه أي شيء إلا المساجد، لقد تم تحويله منذ عشرات السنوات إلى مصنع للكراسي البلاستيكية، التقينا في المسجد بشيخ ينتمي إلى حمولة أبو سيف والذي حدثنا عن يافا وعائلته التي يصل تعدادها إلى أربعمائة شخص، لم تهاجر هذه العائلة من قريتها المسماة بسكنة درويش.
"لم يبق من عائلات يافا الأصليين سوى أربع عشرة عائلة يافاوية، الأحياء مختلطة بين اليهود والفلسطينيين، لا توجد أحياء خاصة بالفلسطينيين في يافا، بل أحياء مختلطة، يتم تشجيع أهلها الفلسطينيين على الهجرة إلى مدن اللد والرملة وغيرها، فهم لا يريدون عربا في يافا، بقيت دار أبو العافية ودار أبو سيف ودار أبو شحادة وآخرون، أما البقية فهم من فلسطينيي مدينة أم الفحم وبعض الجواسيس الهاربين من الضفة الغربية، قال لنا الشيخ أن يافا أصبحت (لمم)، كما أن حي المنشية قد أصبح مجرد مبانٍ يهودية فقط".
صرخ الشيخ بنا قائلاً: " أين هم العرب؟ لن تجدوا شيئا عربياً في يافا بعد عشرين سنة".
وحين سألنا شيخ المسجد عن الآذان وكيف يسمح به الإسرائيليون، ضحك قائلاً: للآذان قصة طويلة من المعاناة والنضال في سبيل إقراره، وحدثنا الشيخ عن مشكلة الأذان قائلاً:
"زارني اثنين من الشاباك (المخابرات) واستدعياني خارج المسجد، قال لي احدهم: نود تعيينك في وزارة الأديان الإسرائيلية براتب شهري، فقلت له: أنا أعمل لله ولست محتاجاً لأموالكم لأعمل عندكم أجيراً، كما أنني لست تابعاً لمسجد حسن بيك لتتحكموا بي، فمسجد حسن بيك لا يوجد حوله فلسطينيون، ويمنعون المسلمين من الآذان فيه، أما هنا فانا أملك ورقة موقعة من 750 مسلماً يقطنون الحي التجاري ويطلبون مني أن أنادي عليهم وقت الصلاة وأنا أدعوهم بناءً على طلبهم، ولا يستطيع أحد منعي من ذلك، فقال لي رجل المخابرات الإسرائيلي: حسناً، ولكن صوتك أثناء الأذان مزعج ويرعبنا، فهل تستطيع الدعوة للأذان بصوت اقل إزعاجا!

الصراع على مسجد السكسك
مسجد السكسك مسجد بدون سقف إسمنتي، سقفه عبارة عن بعض الألواح البلاستيكية والمعدنية التي تستعمل في الورش والمصانع، لم يتعد عدد الذين أدوا صلاة الظهر معنا في المسجد العشرة أشخاص. شاهدنا البئر الكبيرة الموجودة في مسجد السكسك، كان واضحاً أن المسجد بحاجة إلى الكثير من الجهد ليصبح مسجداً، تمت إزالة المغسلة من المحراب، تلك المغسلة التي تم وضعها على المحراب حين تم تحويل المسجد إلى مصنع، قام أهل يافا قبل عقدين من الزمن بإعادة استملاك جزء من المسجد والسيطرة عليه، في نفس الوقت الذي يوجد جزء كبير منه على هيئة مصانع صغيرة تم اقتطاعها من المسجد.
المسجد الذي هجر بعد النكبة، تحوّل لبيتٍ للفواحش، ولكن قام أهل يافا وعائلة السكسك مؤخراً بتحرير جزء منه ولا زال العمل مستمراً على تحرير الأجزاء المتبقية من خلال المحاكم. كما حوّل جزء منه بعد النكبة إلى مصنع للحديد (محددة) لعشرات السنوات، كما رغب الإسرائيليون بتحويله إلى متحف، ولا زالت المعركة قائمة للحفاظ على ما تبقى منه.
لا زال الكثيرون من عائلة السكسك يعيشون في يافا ولا زالت هذه العائلة تتمتع بوضع اقتصادي جيد، فحين كانت يافا مركزاً تجارياً، كانت عائلة السكسك تقوم بتجفيف السمك وتدخينه وتصديره للبلاد العربية، فاعتبرت من العائلات الغنية، وبنت المسجد من أموالها.
يشجع الإسرائيليون المواطنين الفلسطينيين على استئجار البيوت في بقية المدن الإسرائيلية ما عدا مدينة يافا، ويهدفون من وراء ذلك إلى تخفيف الوجود الفلسطيني فيها لما لذلك من علاقة قوية بالهوية والتاريخ الفلسطيني، في حين لا يوجد ما يعزز الهوية العربية في أي من المدن الإسرائيلية الجديدة.
عاد الشيخ وقال لنا: أنا أنتمي إلى عائلة كان معظم أبنائها من (الزعران)، نصفهم الآن حجاج ومعتمرون عرفوا طريقهم إلى الهداية، إن الإسرائيليين يحسبون حساباً كبيراً للزعران، لو كنا ضعافا لخسرنا البيارة الخاصة بنا منذ عقود، يوجد ضدي أكثر من ستين شكوى وملفاً في الشرطة بسبب ردي على الاعتداءات التي قام بها الإسرائيليون ضدنا، حيث اعتدوا علينا عدة مرات فقمنا فورا بالرد عليهم بالضرب. ومن المعروف أن الشرطة دائماً إلى جانبهم، إنهم جبناء ويعرفون أنهم يسرقون أرضنا، إنني أقول دائماً أنني اشتريت منزلاً في مبنىً إسرائيلي جديد في مدينة يافا لتنخفض قيمته وليعزف اليهود عن شراء الشقق فيه لأنهم سيجدون أنني جارهم فيه، كثيراً ما نشتبك بالأيدي مع اليهود وبقاؤنا هنا كالقابض على الجمر. كان كبار السن فقط يصلون في المساجد ولكن قبل عشرين سنة صارت لدينا صحوة إسلامية في يافا وأصبح الشباب أيضاً يرتادون المساجد". ختم الشيخ
على البحر تفيض المشاعر
مررنا على شاطئ يافا للبحث عن سمك يافا الطازج، لم أكن ممن يعشقون رائحة السمك من قبل، لكن رؤية السمك الطازج الحي يقفز في الحاويات أثار اهتمامي، أشفقت على حالنا في مدينة نابلس حيث نشتري السمك بعد صيده بعدة أيام مخزّناً لأيام طويلة في الثلاجات. للسمك نكهة وزنخة مميزة حين يكون طازجاً. اشترينا كمية من السمك الطازج وعدنا به إلى نابلس سعداء كمن اشترى صيداً ثميناً، كيف لا وملايين الفلسطينيين يتمنون أن يحظوا بفرصة لاستنشاق زنخة السمك اليافاوي.
وفي وقفة تأمل مع البحر، وجدت فيه سحراً خاصاً، فحين تقف على رماله تجذبك قوة لذيذة إلى الداخل، كأن صوتاً يقول لنا أن السر في أعماق هذا البحر، وعلى الشاطئ يستمر الموج في إزاحة الرمال من تحت أقدامنا حتى عودته للبحر، يحاول الموج أن يذكرنا بأنه مهما سحب ذرات من الرمال فهو عاجز عن إزالتها جميعاً، وكذلك حي المنشية، ذكراه باقية رغم محاولات الأسرلة.
حين خرجنا من المياه بعد الغروب، شعرت بأنني على موعد قريب مع هذا الشاطئ الساحر الذي يدعونا لعدم تركه وترك يافا دون تكرار الزيارة. نظرت حينها إلى السماء ودعوت الله أن يلهمني القدرة على تكرار هذه الزيارة حتى خريف العمر، إذ منذ رأيت يافا وشاطئها لم أعد قادراً على عشق السفر إلى أي بلد آخر في هذا العالم الشاسع الواسع الذي لا يمتّ لي بمقدار ما تمتّ لي يافا وشاطئها وتأسرني كلما زرتها أكثر فأكثر، وصدقت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي حين قالت: نحن لا نسكن المدن، المدن هي التي تسكننا.
|