في ظل احتلال استيطاني عسكري اقتلاعي:
الزراعات العضوية مفتاح الأمن الغذائي الفلسطيني والانعتاق من التبعية الغذائية لإسرائيل
العمود الفقري لاقتصاد المقاومة: إنتاج زراعي متحرر من الكيماويات والبذور الصناعية

جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
بالرغم من الحصار التجويعي المكثف والمنظم المفروض على أبناء شعبنا في قطاع غزة، منذ نحو أربع سنوات، وبالرغم من الدمار الهائل الذي تسببت فيه الآلة العسكرية الإسرائيلية للأراضي الزراعية، فقد تنامت إبداعات المزارعين الغزيين، وانتشرت ظاهرة الزراعات العضوية في المنازل الغزية، بل وبادرت وزارة الزراعة في حكومة غزة إلى تشغيل العمال الزراعيين في أراضي المحررات (المستعمرات السابقة) لزراعتها بالمحاصيل العضوية والنخيل، وتصنيع الأسمدة العضوية (الكمبوست) وتوزيعها على المزارعين، بعيدا عن التبعية للكيماويات والمستلزمات الزراعية المستوردة من إسرائيل والتي تتحكم فيها الشركات الإسرائيلية، فضلا عن الاحتلال الذي يسيطر على المعابر سيطرة تامة.
وينسجم هذا التوجه الإنتاجي الزراعي مع الأطروحات التنموية الإنتاجية الداعمة لاقتصاد المقاومة والتي دأبت هذه المجلة على التنظير لها. كما يتقاطع هذا التوجه مع المدرسة التنموية التي يتبناها هذا الموقع والداعية إلى الانتاج الغذائي البلدي والعضوي النظيف والمتحرر من الكيماويات والبذور الصناعية، والمنعتق بالتالي من التبعية للمدخلات الاحتلالية والأجنبية الأخرى.
وهذا يذكرنا بالمبادرات الإنتاجية الشعبية في مطلع الانتفاضة الأولى (أواخر الثمانينيات)، والتي شكلت بوصلة البديل التنموي للاستغلال الاقتصادي القائم على قاعدة "من أعلى الى أسفل" والمدعوم بحراب الاحتلال، وهذه المبادرات تحديدا تشكل تناقضا مع المفهوم التنموي للبنك الدولي والمستند الى اقتصاد "السوق الحر" الذي يريد أن يجعل من الحياة الريفية الزراعية التقليدية في الضفة والقطاع أولى ضحاياه. إذ كيف يمكن لمجتمع يرزح تحت الاحتلال الاستيطاني والعسكري منذ عقود طويلة وتتواصل ضده الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة، أن يقف فورا ودفعة واحدة في "اقتصاد السوق" ويواجه المنافسات "الحرة" التي لا ترحم؟ علما أن البطالة في الدول الغربية تعد من أهم النتاجات "الجانبية" المدمرة لاقتصاد "السوق الحر"، في حين أن نتاجاته في دول الجنوب تتجسد في الفقر والمجاعة والحروب القبلية والمحلية.

دائرة الانتاج والاستهلاك المحلية
في ظل وجودنا تحت احتلال استيطاني وعسكري اقتلاعي يمارس سياسات الحصار والتجويع بشكل منظم ومنهجي، ومن منظور اقتصاد المقاومة، ولضمان تحقيق الأمن الغذائي الفعلي لأوسع الشرائح الشعبية وليس لصالح شريحة هامشية من التجار والمصدرين والوكلاء، فضلا عن استفادة شركات التصدير الصهيونية، فإن الأولوية لا بد أن تكون باتجاه تلبية وتغطية احتياجاتنا الغذائية الأساسية والإستراتيجية من إنتاجنا المحلي المتحرر إلى أقصى حد ممكن من التبعية لمدخلات الإنتاج الصهيونية، التي يتحكم بها الاحتلال وشركاته. وذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال تشجيع وتحفيز المزارعين على العودة إلى الزراعات البلدية والعضوية التي تتميز مدخلاتها بكونها محلية، سواء على مستوى السماد البلدي المحلي أم السماد الأخضر أم الحيوانات أم الأيدي العاملة أم البذور البلدية غير الصناعية، أم العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية. وهذا التوجه الإنتاجي الغذائي الإستراتيجي، يضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما في داخل بلدنا، لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية التي يعيد المزارعون إنتاجها بأنفسهم محليا، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية؛ مما يعني الاعتماد على الذات وتحقيق الاستقلال والأمن الغذائيين وطنيا.
فشل ذريع للسياسات الزراعية الكيماوية والتصديرية
لقد اتضح بشكل صارخ، ومنذ عشية انتفاضة الأقصى عام ألفين، فشل السياسات والتوجهات الزراعية التي دفعت العديد من المزارعين الفلسطينيين نحو الإنتاج الزراعي التصديري، وتراجعت الزراعة، وبخاصة مع تكرار تلف معظم الإنتاج الزراعي الكمالي الموجه للتصدير لأوروبا وإسرائيل (كأزهار القرنفل والتوت الأرضي في قطاع غزة)، وذلك، أساسا، بسبب الحصار والإغلاق، وبالتالي، تضرر المزارعون – وبخاصة في قطاع غزة - الذين حولوا أجزاء كبيرة من أراضيهم للزراعات التصديرية، الأمر الذي دفع العديد منهم إلى العودة لزراعة منتجات أساسية أقل عرضة للتلف والمخاطرة، ويسهل تخزينها وتتطلبها السوق المحلية (كالبطاطا والبصل والباذنجان والخيار وغيرها)، علما أن المردود الربحي للمنتجات الأخيرة – نظريا - أقل من الزراعات التصديرية. لكن، ما حصل ويحصل أن المزارعين الفلسطينيين، في ظل الإتفاقيات الإسرائيلية – الفلسطينية الاقتصادية والسياسية الكولونيالية، لم يتمكنوا من الإستفادة من الفرص والوعود النظرية الوهمية التي توفرها "التجارة الحرة" التي تتمتع بها فعليا المنتجات الإسرائيلية وحدها، وباتجاه واحد (من إسرائيل إلى السوق الفلسطيني)، كما أن الصادرات الفلسطينية بشكل عام، بين عامي 1992 و2000، أي قبل انتفاضة الأقصى، تراجعت إلى أكثر من النصف.
وبالرغم من كون الضفة الغربية وقطاع غزة منطقتين زراعيتين، بل شكلت الزراعة، تاريخيا، أهم قطاع اقتصادي، إلا أن معظم الاستهلاك الفلسطيني، وبخاصة في المدن، يتمثل في المنتجات الزراعية الإسرائيلية التي تغرق الأسواق الفلسطينية، علما بأن إسرائيل تمنع، إجمالا، المنتجات الفلسطينية من الوصول إلى الأسواق الإسرائيلية. وهذا يعني، أن الاحتلال الصهيوني فرض ويفرض "تنافسا" قسريا غير متكافئ بالمطلق بين وارداته الزراعية المدعومة والمنتجات الفلسطينية المكشوفة؛ مما يولد أزمة تسويق فائض الإنتاج المحلي في السوق المحلية؛ وذلك بسبب انكشاف هذا الانتاج وحرمانه من الحماية الوطنية والرعاية وعدم منحه الأولوية في التسويق المحلي.
وبالرغم من ذلك، لا نزال نجد بعض "خبراء" الاقتصاد والتجار والوكلاء الفلسطينيين يروجون للإنتاج الزراعي بهدف التصدير "المنافس" في الأسواق الإسرائيلية والأجنبية الأخرى.
وهؤلاء، حينما يتحدثون عن الزراعات التصديرية، لا يسألون أنفسهم عن ماهية الأرضية الإنتاجية التي يجب أن تقف عليها الزراعات التصديرية. ومن منظور الأمن الغذائي الاستراتيجي، هل ثمة حاجة اقتصادية - تنموية حقيقية أصلا للتصدير، علما بأن جزءا كبيرا من الاستهلاك المحلي للخضروات والفاكهة والحمضيات مصدره إسرائيل؟ وهذا يعني زيادة فائض الإنتاج وبالتالي المزيد من ضرب المنتجين المحليين، بل وأحيانا إخراجهم من السوق المحلية وإفقارهم، بما يتناقض مع هدف تعزيز الأمن الغذائي، وبخاصة لأن حركة البضائع إلى الأسواق الخارجية تتحكم فيها إسرائيل تماما، وهي التي تقرر متى يسمح ومتى يمنع التصدير.

الصادرات الكمالية
في الواقع، يعود أصل فكرة الصادرات الزراعية الفلسطينية الكمالية (كالورود والفراولة وغيرهما) إلى الحكم العسكري الصهيوني تحديدا، أي الاحتلال، حيث عمل منذ أواسط الثمانينيات على تشجيع مزارعينا في غزة على زراعة الورود، وذلك في إطار توجيه الزراعة الفلسطينية لإنتاج محاصيل تلبي حاجات الاقتصاد الصهيوني إما للاستهلاك المباشر أو لسد فجوات تصديرية في الاقتصاد الصهيوني، تمشيا مع سياسة تعميق دمج الاقتصاد الفلسطيني في الاقتصاد الصهيوني، تلك السياسة القائمة على سلسلة من الأوامر العسكرية والإجراءات الضريبية لمنع المنتجين الفلسطينيين من منافسة المنتجين الصهاينة سواء في السوقين الصهيونية والفلسطينية أو في الأسواق العالمية. من هنا، فإن التصدير الزراعي الفلسطيني يتم من خلال شركات التصدير الإسرائيلية. وللأسف، واصلت السلطة الفلسطينية، منذ تأسيسها عام 1994، نفس السياسة الإسرائيلية التصديرية، وكان المستفيد الأساسي من هذا التوجه ثلة من الوكلاء والسماسرة الكبار.
ولاغراء مزارعي غزة، قدمت لهم "الادارة المدنية" الإسرائيلية، في حينه، بعض "الدعم المالي" و"القروض والمساعدات الفنية"، فضلا عن ضمان شراء الزهور منهم. وبالفعل، نجح الاحتلال في "إقناع" بعض المزارعين باقتلاع أشجار الحمضيات من بياراتهم، وزراعتها بالزهور بدلا من الحمضيات والخضروات، علما أن حمضيات غزة كانت، تقليديا، تعد من التراث الزراعي المميز الذي يفتخر به الفلسطينيون. وعندما تمكن الاحتلال من تسخير الانتاج الزراعي الفلسطيني لخدمة اقتصاده، توقف عن إعطاء المزارعين "الحوافز"، فصار الانتاج الزراعي خاضعا لتقلبات السوق. بمعنى عمل الاحتلال على سحق المنتجات الزراعية الفلسطينية الأساسية، من خلال منع حمايتها من المنافسة الاسرائيلية والأجنبية من ناحية، وتشجيع تحويل المزارعين الفلسطينيين الى الزراعة الكمالية التي لا يستفيد محليا من أرباحها سوى نفر من الملاكين والتجار الكبار، من ناحية أخرى.
وهنا يتم تجاهل أن تحول زراعتنا نحو الزراعة الأحادية الموجهة "للسوق العالمية" سوف يوصل شعبنا، كما أوصل من قبلنا شعوب أخرى في "العالم الثالث"، إلى درجة العجز عن إنتاج وتأمين غذائه الأساسي، بحيث لن يبقى أمامنا سوى مواجهة المصير المحتوم: المجاعة والفقر الغذائي.
وبالإضافة إلى الدوافع الإسرائيلية الحقيقية الكامنة وراء "الحماس" لزيادة إنتاج الزهور للتصدير؛ وبالتالي فإن المستفيد الحقيقي من هذه السياسة التصديرية هو اقتصاد الاحتلال، فمن المفيد التذكير بأن زراعة الزهور عبارة عن زراعة مروية وبشكل مكثف، وتتوافر لها، فجأة (ياللعجب !)، المياه النقية التي يحرم منها شعبنا (وبخاصة في غزة)!
المهم في الموضوع، أنه وبالرغم من الخسارة الضخمة الواضحة التي مني بها قطاع الزهور، والتي تقدر بعشرات ملايين الدولارات (منذ أواخر التسعينيات وحتى أوائل عام 2006)، وأساسا بسبب الإسرائيليين وسيطرتهم التامة على المعابر والجسور، ، وبالرغم من قيام عدد كبير من مزارعي الزهور والفراولة وغيرها من الزراعات المعدة للتصدير، بإتلاف كميات ضخمة منها، مرارا وتكرارا، نظرا لعدم تمكنهم من تصديرها، فان هناك إصرار غير مفهوم، لدى بعض الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين، على المضي قدما في إعادة إنتاج الفشل، وكأن المقصود هو إثبات خطأ المثل الشعبي القائل: "اللي بجرب المجرب عقله مخرب"! وإجمالا، فإن مشروع الصادرات الأحادية الكمالية منوط برحمة الصهاينة الذين طالما "تعهدوا"، ومنذ أواسط التسعينيات، بعدم إغلاق المعابر أمام الصادرات الزراعية الفلسطينية! علما بأن الأخيرين سبق أن قدموا نفس "التعهدات" مئات المرات. وهذا ما لاحظناه أيضا بشكل صارخ في منتجات الدفيئات الزراعية المعدة للتصدير، في أراضي المستعمرات السابقة بغزة، والتي أتلف، في شتاء 2005 / 2006، جزء كبير منها بسبب إغلاق الاحتلال للمعابر؛ مما أدى إلى تبديد وهدر ملايين الدولارات. والغريب في الأمر، أن التركيز المبالغ فيه على التوجه التصديري، يتم في الوقت الذي يفتقر فيه الفلسطينيون في الضفة والقطاع إلى السيادة السياسية والاقتصادية على الأرض والموارد والأسواق المحلية، والحدود والصادرات والواردات، وحركة رؤوس الأموال.
والأهم أنه قد باشرت وزارة الزراعة الاسرائيلية، منذ أواخر التسعينيات، في استثمار مئات ملايين الدولارات، لزراعة أكثر من 100000 دونم في صحراء النقب لإنتاج كميات كبيرة من الحمضيات والخضروات والزيتون والقمح والورود. وتعد هذه المنتجات التي تروى بالمياه العادمة المعالجة من منطقة تل أبيب، منافسة في الأسواق الأوروبية والأميركية.
إذن، هدف الاحتلال الإسرائيلي من وراء توريط مزارعينا في الزراعة الكمالية وإغرائهم بالتخلي عن الزراعات الأساسية والتقليدية، هو، في المحصلة، تدمير ما تبقى من قطاعنا الزراعي، لصالح تصدير إسرائيل لنفس المحاصيل التي أُقْنِعَ المزارعون الفلسطينيون بالتخلي عنها. كما أن إسرائيل والجهات الغربية نفسها التي شجعت مزارعينا وبعض المسؤولين الفلسطينيين على زراعة الزهور، عملت، فيما بعد، على إبادة هذا القطاع، لأن الأولوية أصبحت للزهور الإسرائيلية في النقب وغيره. وفي المحصلة، حصدنا مزيدا من تشويه اقتصادنا وإفقار وتجويع مزارعينا وأبناء شعبنا.
"السوق الحرة"
بما أن الاقتصاد الزراعي الفلسطيني يواجه، منذ عقود، عملية صهيونية منظمة لتحطيم مقوماته، فالأولى أن يحصل المزارعون الفلسطينيون على الحد الأدنى الممكن من الدعم المادي والمالي، وتحديدا من خلال إعفاء منتجاتهم من الضرائب بكافة ألوانها، ومنع استيراد المنتجات الصهيونية والأجنبية الأخرى المنافسة والتي تتمتع بميزات تسويقية غير عادلة، وبالتالي حماية المنتجين المحليين من الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية، وبخاصة لأن السوق الفلسطينية المحاصرة والمخنوقة، لا ينطبق عليها ما يسمى بقوانين السوق المتعارف عليها عالميا في الظروف الاقتصادية الطبيعية. كما لا يوجد عمليا في الضفة والقطاع ، ولا يمكن أن يكون في المستقبل، "سوق حرة"، وذلك ما دام الاحتلال يتحكم ويسيطر على الاقتصاد والموارد الفلسطينية، حيث إن ما يسمى بالسوق الحرة تحت حراب الاحتلال والافتقار الكامل إلى السيادة السياسية على الأرض والموارد والحدود وحركة رأس المال وقوة العمل والواردات والصادرات. هذه السوق عبارة عن وهم يتم الترويج له من قبل المؤسسات المالية والاقتصادية الرأسمالية الدولية، علما بأن هذه السوق تفتقر إلى الشروط الأساسية والبديهية لوجودها، والمتمثلة أساسا في السيادة والاستقلال وحرية حركة القوى البشرية والمنتجات ورؤوس الأموال.
وهنا، ربما سنحتاج إلى دراسة تحليلية للسوق المحلي، بحيث تبين الميزات التسويقية غير المتكافئة وغير العادلة التي تتمتع بها الواردات الزراعية الأجنبية. كما سنحتاج إلى شن حملات توعية وضغط لدى الوزارات والمؤسسات الرسمية والأهلية، فضلا عن الحملات الخارجية لدى مؤسسات الرقابة الدولية وحقوق الإنسان والقوى المناصرة للشعب الفلسطيني. وبالتأكيد، فإن العديد من موظفي الوزارات والمؤسسات الرسمية المعنية، فضلا عن المنتجين وأطر وجمعيات التسويق، ستحتاج إلى برامج توعية وتدريب تتعلق بقيم السوق الإستراتيجية للمنتجات المحلية.

المزايا الإستراتيجية في المنافسة على الأسواق الخارجية
وإذا لم يكن بد من التصدير ، كما يروج العديد من الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين، فيجب ألا يكون ذلك قبل تلبية كل احتياجاتنا الغذائية الأساسية من إنتاجنا المحلي، ومن ثم فبإمكان الزراعة التصديرية أن تستند الى تنوع الانتاج أولا (لأن في التنوع يكمن أيضا تقليل للمخاطرة)، وزراعة منتجات عضوية (خالية من الأوساخ الكيماوية) ثانيا؛ حيث إن الطلب على الأخيرة يزداد باستمرار في الأسواق العالمية عامة والغربية خاصة، وبإمكان مزارعينا التفوق في هذا المجال، والاستفادة من مزايا استراتيجية حقيقية في المنافسة على الأسواق الخارجية، وذلك بالاعتماد على قوتنا الزراعية المحلية الكامنة، وتراثنا الزراعي الطبيعي والعضوي الغني.
وفي الواقع، تمتلك الزراعة البلدية الفلسطينية، حينما يجري العمل على إغنائها وتطويرها، لتتحول إلى زراعة عضوية – بيئية، ميزة تنافسية من الدرجة الأولى، وذلك بخلاف الزراعة الكيماوية التي لا يمكن لمنتجاتها الفلسطينية المنافسة في الأسواق الخارجية، وبخاصة الغربية، نظرا لإغراق تلك الأسواق بكميات هائلة من تلك المنتجات "الأكثر جودة" والأرخص ثمنا. وعلى سبيل المثال، يتسبب استخدام الكيماويات الزراعية في كروم الزيتون، في تدني جودة زيت الزيتون الفلسطيني الذي يعتبر سعره مرتفعا بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج، قياسا بأسعار زيوت بعض الدول الأخرى مثل اسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان، الأمر الذي يفقد الزيت الفلسطيني ميزته التنافسية، في الأسواق الخارجية، والمتمثلة بكونه زيتا بلديا (طبيعيا).
وحتما، سيحتاج بعض المنتجين المحليين، والعديد من موظفي الوزارات والمؤسسات الرسمية والأهلية المعنية إلى عملية تدريب مكثفة حول المميزات الاستراتيجية الكامنة في الدخول إلى الأسواق الزراعية العضوية. وسيحتاج المزارعون المعنيون، إلى برامج إرشادية وتدريبية حول الممارسات الزراعية العضوية لإنتاج المحاصيل التقليدية التي تتضمن طلبا تصديريا كبيرا.
وبإمكاننا أيضا، إدخال الزراعة العضوية لإنتاج المحاصيل التقليدية التي لها آفاق تصديرية جيدة وتحقق فوائد اقتصادية وصحية وبيئية حقيقية للمزارعين، مثل الحمضيات والبلح والعنب والتين وزيت الزيتون والخضار، فضلا عن محاصيل جديدة مناسبة. وبإمكاننا تطوير زراعة محاصيل عليها طلب في الأسواق الخارجية، وتحتاج إلى قليل من العناية مثل الصبر والخروب والسمسم والأعشاب الطبية وغيرها، كما أننا نستطيع تربية الدواجن والمواشي وإنتاج مشتقات الألبان العضوية.
إن أهم ما يميز واقع الإنتاج الزراعي الفلسطيني الحالي، أنه يفتقر إلى التخطيط في إطار اقتصاد الصمود والمقاومة، وبالتالي مواجهة السياسات الاقتصادية الصهيونية الهادفة إلى تدمير الاقتصاد والسوق الفلسطينيين، مما يجعل هذا الانتاج غير حصين وحساسا جدا وسريع التأثر بالضغوط الخارجية، مما يهدد استمرارية وجوده.
لذا، وأمام هذا الواقع الاقتصادي الكولونيالي، فإن توفير مقومات الأمن الغذائي الإستراتيجي، يتطلب، بالدرجة الأولى، تشجيع وحث المزارعين والناس عموما، على إنتاج السلع الزراعية الإستراتيجية التي تلبي الاحتياجات الغذائية المحلية أولا. وفي إطار نفس الاستراتيجية الزراعية، لا بد من تشجيع المشاريع الصناعية المحلية التي لا تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، وتعتمد أساسا على تصنيع المنتجات الزراعية العضوية والبلدية المحلية وتدر دخلا جيدا، وذلك بالاستفادة من الموارد والمهارات المحلية. فبإمكاننا، على سبيل المثال، تصنيع العنب والخروب لصناعة الدبس والملبن وغير ذلك، بهدف التسويق المحلي والتصدير للأسواق الخارجية. كما يمكننا أيضا إنشاء مشاريع لتجفيف المحاصيل بالطاقة الشمسية وتصنيعها وتعليبها، فضلا عن إنشاء مصانع لإنتاج الألبان ومشتقاتها، بحيث يتم تسويق المنتجات من خلال تعاونيات لتسويق المنتجات العضوية.
إن التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي وحمايته، يضمن التأسيس لاقتصاد المقاومة في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الصهيونية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا، الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي بدورها إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة، بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها. بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الإستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية، انطلاقا من الإمكانيات المتوافرة، بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع الأقطار العربية المجاورة. وسيتطلب هذا التوجه الإنتاجي الإستراتيجي، خدمات توعية وإرشاد وبرامج تدريبية مناسبة.
ابتكار آليات تسويق جديدة
بما أن السوق الفلسطينية تفتقر إلى الآليات والتقنيات البسيطة والعملية الهادفة إلى تعزيز عملية التسويق المحلية للمنتجات البلدية والعضوية، فمن الضرورة بمكان ابتكار وتطوير آليات ترويجية غير مكلفة وسهلة التطبيق، لتحفيز عملية التسويق الواسعة للمنتجات البلدية (العضوية) المحلية، كأن تسم مجموعة من المزارعين، وبشكل جماعي، منتجاتها بعلامات تجارية خاصة بها، أو أن يضع المزارعون ملصقات على منتجاتهم التي ستباع بالمفرق، بحيث توضح (الملصقات) طبيعة المنتجات البلدية الخام أو المصنعة، فضلا عن توزيع نشرات توضيحية بسيطة مع المنتجات في "الحسبة" أو في المحلات التجارية. ولتعزيز هذا التوجه التسويقي المدروس والمنظم، لا بد من توفير بعض الخدمات الإرشادية والتدريبية للمزارعين ولأطر وجمعيات المزارعين وللوزارات والمؤسسات الرسمية والأهلية ذات الصلة، حول أفضل طرق وتقنيات ترويج وتسويق المنتجات المحلية.
ومن الجدير بالذكر، أن المزارعين يتميزون تقليديا بالتوجه الفردي نحو التسويق، الأمر الذي يزيد من تكاليف الإنتاج والنقل والتسويق، وبالتالي يخفض كثيرا من الجدوى الاقتصادية لعملية التسويق. لذا، من الضروري تشجيع المزارعين على عملية الشراء الجماعية لمدخلات الإنتاج، فضلا عن عمليات التسويق الجماعية، من خلال الوسطاء والتجار. إن عقد صفقات تجارية جماعية للمزارعين، مع تجار المفرق أو الجملة، سيرفع كثيرا الجدوى المالية لعملية التسويق، وسيخفض كثيرا من تكاليف النقل والتسويق، مما سيمنح المزارعين موقعا أقوى في عملية التفاوض مع التجار والوسطاء.
علاوة على ذلك، بالإمكان إقامة علاقات مباشرة بين المنتجين والمستهلكين. وعلى سبيل المثال، قد تنظم بعض الأسر الفلسطينية نفسها، كمجموعات من المستهلكين، وترتبط بشكل جماعي ومباشر مع المزارع أو مجموعة من المزارعين، بحيث تدفع الأسر للمزارع مبلغا مسبقا، مقابل إنتاج الأخير لمحاصيل بلدية وطبيعية. كما أن مجموعة من المزارعين البلديين (العضويين) قد ينشئون، بشكل جماعي، شبكات تسويق أو مستودعات تخزين وتوزيع بالمفرق والجملة، خاصة بهم، بحيث تخدم احتياجاتهم التسويقية في المدن والأرياف.
وبهدف نشر وتعزيز هذا التوجه التسويقي الجماعي، لا بد من توفير الخدمات الإرشادية والتدريبية للمزارعين ولأطر وجمعيات المزارعين والوزارات المعنية، حول المنافع والمزايا الكبيرة الكامنة في التسويق الجماعي، والتسويق المباشر من المنتجين إلى المزارعين، وقنوات التسويق المباشرة والخاصة بالمزارعين، بالجملة والمفرق.
يضاف إلى ما ورد، تنظيم زيارات جماعية متواصلة ومنتظمة لمجموعات من الأسر الفلسطينية في المدن والمخيمات (كمستهلكين) إلى المنتجين المحليين في حقولهم؛ وذلك بهدف التعرف على طبيعة وجودة المنتجات الزراعية، وبالتالي شراءها مباشرة من المزارعين
asdasdsa
هنيئا لك يا أستاذ جورج على هذا التحليل الشمولي لاقتصاد المقاومة وعلاقته
بالزراعات البيئية والعضوية ...
جمال عاصم سعدان
أشكرك يا أستاذ جورج على التزامك الفكري والتنموي المقاوم ومثابرتك دون كلل
وملل، منذ سنوات طويلة على التنظير والدعوة إلى تبني نهج وممارسة الاقتصاد
المقاوم الذي نراه اليوم واقعا في قطاع غزة، وهو ما يشكل نصرا ولو متواضعا
لمدرسة الفكر الاقتصادي التنموي المقاوم ...
ساعد عسقلاني |
|