رحلة "بيئية" مع المسيري.. من حضارة الهامبرجر الأميركية إلى الانتفاضة الفلسطينية
إن من لا يعرف المُفكر المصري عبد الوهاب المسيري إلا من خلال كتاباته عن الصهيونية، لا يتخيّل أن لقضايا بيئية مثل القمامة وإعادة التدوير حضورًا مهمًا في نقده للحداثة، كما أن كُل كتاباته الفِكرية تحمل دعوة للتصالح مع الكون والإنسان فهو بارع في الربط بين قضايا بيئية مثل "التبديد" و"التدوير Recycling" وقضايا فكريّة مثل "الترانسفير" و"الإنتفاضة" والتي قد لا يبدو بينها أيّ علاقة ولكن العلاقة بينهما وطيدة جدًا، كما سنرى من خلال مجموعة من أفكاره التي يسلط عليها الضوء التقرير التالي. |
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
عبد الوهاب المسيري |
لم يكن د. عبد الوهاب المسيري – رحمه الله- يومًا ناشطًا بيئيًا بالمفهوم المتعارف عليه اليوم، بل إن من لا يعرف هذا المُفكر المصري إلا من خلال كتاباته عن الصهيونية لا يتخيّل أن لقضايا بيئية مثل القمامة وإعادة التدوير حضورًا مهمًا في نقده للحداثة، كما أن كُل كتاباته الفِكرية تحمل دعوة للتصالح مع الكون والإنسان فهو بارع في الربط بين قضايا بيئية مثل "التبديد" و"التدوير Recycling" وقضايا فكريّة مثل "الترانسفير" و"الإنتفاضة" والتي قد لا يبدو بينها أيّ علاقة ولكن العلاقة بينهما وطيدة جدًا، كما سنرى من خلال مجموعة من أفكاره التي سنسلط الضوء عليها في التقرير التالي:
خبرات التدوير.. الأصيلة!
لم يكن اهتمام د. عبد الوهاب المسيري بالقضايا البيئية مُجرد صُدفة ولا درسًا تعلمه أثناء دراسته للدكتوراه في أمريكا، وهو ما يؤكده كثيرًا في حكاياته عمّا يُسميه "الحس البيئي الدمنهوري" في كتابه «رحلتي الفكريّة» فيقول: "والمجتمع الدمنهوري – شأنه شأن المجتمعات التقليدية – يرفض التبديد ويقدر "نعمة الله". كنا إذا سرنا ووجدنا قطعة من الخبز كان علينا أن نلتقطها، وبعضنا كان يقبلها ثلاث مرات ثم يضعها إلى جوار الحائط حتى لا يطأها أحد بقدميه. وكانت خبرات التدوير (recycling) قوية للغاية في المجتمع، فكان لا يلقى إلا بأقل القليل في صفيحة القمامة. أما بقية الأشياء فكان يتم تدويرها: أوراق الجرائد – علب الأكل المحفوظ – قشر البطيخ ولبه – بقايا الطعام. كل شيء كان يمكن إعادة توظيفه".
ومع انتقال المسيري إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاحظ أنه ومع زيادة التقدم يتآكل نموذج التدوير ليحل محله نموذج التبديد، وكان يرى أن أمّه التي تعيش في مجتمع "تراحمي" في دمنهور لديها من "الوعي البيئي" أكثر مما لدى الكثيرين في المجتمع "التعاقدي" الأمريكي، فقد كانت متطرفة في حكاية التدوير وكانت تحوّل العُلب بعد استهلاكها وغسلها جيدًا إلى أوانٍ للملح والفلفل علمًا بأن المسألة لم تكن مسألة توفير بل "التزام" بالتدوير، فكل شيء نعمة من الله سبحانه وتعالى". ويُشير المسيري أنه ورث عنها شيئاً من خبرات التدوير، فكان يُحب الأشياء القديمة ويستخدم الورق الذي سبق استخدامه ليكتب على ظهره كما كان يرتدي الملابس حتى تُبلى تمامًا، وقد ورّث هذه الخبرات بدوره لابنه الذي لم يختلف عنه في حكاية الملابس.
حفلات الزفاف.. من لحظة تبديد إلى لحظة تدوير!
إن الحرب على الثقافة الاستهلاكية والتقدم المادي لم تكن مسألة هامشيّة في كتابات المسيري ولا حتى في حياته، بل نراه يستغل كُل فرصة لمقاومة التبديد من خلال التدوير، بما في ذلك حفل زفاف ابنه فيقول: "حينما عقدتُ حفل زفاف ابني، كنت أعرف أنه سيتبقى الكثير من الطعام. فذهبت الى السيد المدير المسئول في الفندق وسألته عما سيحدث لبقايا مأدبة العشاء، فأجابني بعجرفة غير عادية وباللغة الانجليزية "جاربيج garbage" أي "قمامة". فقلت له بهدوء شديد إنني ضد التبديد، وطلبت منه ألا يلقى بشيء، وسأحضر كراتيناً وأوانٍ وحللاً لآخذ ما تبقى لتوزيعه على المحتاجين في المنطقة التي أسكن فيها. فنظر إلىّ بامتعاض شديد، بحُسباني شخصا غير متحضر، ولكنني أصررت على موقفي. غير أنه قرب نهاية السهرة، جاء كبير الجرسونات، وأخبرني أن ما قاله المدير لا أساس له من الصحة، فالعاملون يأخذون البقايا ليوزعوها على أسرهم. وهنا أصبح للمسألة بُعد بيئي إنساني مختلف، فاتفقنا على اقتسام "القمامة"، يأخذون النصف، ونحن النصف الآخر لتوزيعه على المحتاجين في مكان سكننا، وقد كان. وتحول حفل الزفاف من لحظة تبديد وقمع الى لحظة تدوير ورخاء ومشاركة".
ألعاب الأطفال.. والغرق في بحر البلاستيك!
الأكيد أن المُشكلة لا تنحصر في حفلات الزفاف، فما أكثر الحفلات التي دخلت حياة الإنسان الحديث كحفلات أعياد الميلاد والتي يعتبرها المسيري من أهم الطقوس العلمانية في مجتمعاتنا ويرى فيها "جريمة منظمة" لأنها تساهم وبقوة في نشر نموذج التبديد، فيُقارن بين الألعاب التي كان يصنعها بنفسه في طفولته والألعاب التي كان يشتريها لأطفاله بينما أحفاده يغرقون في بحار من الألعاب البلاستيكية فيقول عن حفيده: "فإذا كان عدد زملائه في الفصل 25، هذا يعني أنه يحضر 25 عيد ميلاد ويحضر 25 لعبة لزملائه وهم بدوره يفعلون الشيء نفسه، وفي يوم عيد ميلاده يصله عدد مخيف من اللعب يغرق فيها تمامًا".
وللعلم فإن المسيري لم يكن يكتفي بانتقاد هذه الظواهر "الاستهلاكيّة"، فله مساهمات كثيرة في أدب الأطفال مثل حكايات "الجمل ظريف" والتي يجهلها الكثير ممن لم يعرفوا عن المسيري إلا من خلال موسوعته "اليهود واليهوديّة والصهيونية" وكتاباته في نقد الحداثة والثقافة الاستهلاكية، فهو يرى أنه لا بُد من "ملء الفراغ" وإيجاد بديل للألعاب الأمريكية والحكايات التي تحول الأطفال إلى "كائنات استهلاكية" دوافعها ماديّة وجنسية فقط وهذا على حساب القيم الروحيّة، ومن هذه الشخصيات: الشخصية الكرتونية «باتمان» التي تتمتع بإرادة مُطلقة مثلًا، أو حتى «باربي» والتي تتميز بجاذبيتها الجنسية وليس فيها من سمات الطفولة شيء وفوق هذا لها منزل فاخز و"بوي فريند" وأصدقاء كثيرون يدورون كلهم في الفضاء المادي الاستهلاكي، وهي ليست إلا واحدة من سلسلة من “الألعاب الداروينيَّة الاستهلاكيَّة" كما يصفها.
مصدر الصورة: http://marusya-ekb.ru
باربي وتقاليع الموضة...!
إن أثر الباربي وباتمان لا يزول بسهولة.. بل نجده حاضرًا من خلال تصاعد معدلات الاستهلاك، فمكانة الإنسان الاجتماعية وسعادته باتت تتحدد من خلال الاستهلاك وهو ما يُطلق عليه المسيري "الترشيد الجواني" وللأفلام السينمائية والإعلانات التلفزيونية دور كبير في هذا "الترشيد" الذي "يُنمّط" الأفراد ويحدد لهم كُل شيء ولا يترك لهم أحلامًا خاصة، وهو ما يتجلى بشكل كبير من خلال تقاليع الموضة وهو ما يوضحه المسيري قائلًا: "الهدف المعلن من تغيير الأزياء هو إعطاء الفرصة للمرأة أن تجدد ملابسها وتغيرها حسبما يروق لها، فتعبر عن ذاتها ولكنك لو دققت في الأمر لوجدت أنه لو أن كل امرأة أطلقت فعلًا لخيالها العنان وعبَّرت عن ذاتها خارج كل حدود وقيود وسدود، فإن مصانع الملابس الحريمي ستتوقف عن الدوران؛ لأن سلوك المرأة لا يمكن التنبؤ به، ولكن يمكن للاحتكارات أن تعد خطوط الإنتاج المليونية! هنا تأتي مهمة الأزياء، في أنها تقوم بضبط سلوك المرأة (ترشيده) فتضع لها الخطوط الأساسية التي تتحرك داخلها".
حضارة الفوارغ
سواء كُنا نتحدث عن الموضة أو حتى عن الباربي والتبديد في حفلات أعياد الميلاد والأعراس بالإضافة إلى انتشار أطعمة مثل الهامبورجر والأغذية المعدلة وراثيا بدلًا من الأطعمة الشعبية الأصلية وموسيقى الديسكو بدلًا من الموسيقى الشعبية أو الموسيقى العالمية الراقية فإن كُل هذه الظواهر يُمكن فهمها بالنسبة للمسيري في إطار فهم "حضارة الفوارغ" أو "حضارة الهامبورجر" والتي تتجسد في الحضارة الأمريكية التي كتب المسيري عنها في كتابه "الفردوس الأرضي" والذي ينتقد فيه كيف أن "التقدم" على الطريقة الأمريكية تسبب بنزع القداسة عن الإنسان والعالم كما وساهم في التلوث البيئي، وهو ما يؤكده أيضًا بشكل أعمق في كتابه الشهير "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" فيقول: "إن الأمريكي الذي يعيش في حضارة الفوارغ وحضارة التغليف لا يعرف فكرة التدوير، ولا يعرف "الاقتصاد الإنساني" – وهي فكرة الشاعر الامريكي هنري ثوري - ولذا نجد أن الأمريكي غير راض عما في يده، دائم البحث عن الجديد وعن آخر التقاليع، يغيّر سكنه وجيرانه وأصدقاؤه مرة كل خمسة أعوام، ويستمع كل شهر (وربما كل أسبوع) إلى أغنية جديدة، ويرتدي كل عام رداءً جديدًا، ويحاول أن يغيّر سيارته كلما سنحت له الفرصة. وهو يغيّر زوجته مثلما يغير كل شيء آخر (وهي أيضًا تفعلُّ الشيء نفسه) حتى يبدأ من جديد".
وفي مُحاولة لتفسير هذه الظاهرة يضطّر المسيري للعودة إلى تاريخ المجتمع الأمريكي ليُذكرنا أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع استيطاني وهو ما يُعمق لدى الأمريكيين هذا التوجه الاستهلاكي، كما يُشير إلى أن فكرة "الترانسفير" المرتبطة بالاستعمار ترتبط بشكل أساسي بـ "حضارة الفوارغ" التي هي في جوهرها "حضارة إمبريالية توظيفية تستهلك كُل شيء وتوظف كل شيء وتبدد كل شيء"، وبالنسبة للمسيري فإن الحضارة الغربية التي وظّفت الصهيونية لخدمة مصالحها في فلسطين هي نفسها التي تتخلص من كبار السن في بيوت للعجزة وهي نفسها التي يشرب فيها الإنسان زجاجة عصير أو مياه غازية ويلقي الزجاجة الفارغة ويأكل الساندويتش ويلقي كمية هائلة من الأوراق التي تغلفه. هذا التبديد يتجلى بشكل واضح أيضًا على الصعيد العالمي في قضايا الطاقة والمواد الخام.
هذه الملاحظات كانت تتعمق لدى المسيري خلال حياته في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيّات القرن الماضي، حيث بدأت مرحلة ما بعد الحداثة (بعد عام 1965) وصار "الهدف النهائي من الوجود في الكون هو الاستهلاك والمزيد من الإستهلاك" كما أصبح "الاختراع أبو الحاجة" بعد أن كانت "الحاجة أم الاختراع" وهو ما أسهم بتحريك عجلة الانتاج بشكل غير مسبوق وكان للإمبريالية النفسيّة دور في هذه التغيّرات. وقد لاحظ المسيري هذه التغيّرات في قمامته المنزلية التي كانت تتزايد مع الوقت، فبعد أن كان يُخرج سلة واحدة من القمامة صار يُخرج ثلاث سلال يوميًا – رغم كُل خبرات التدوير والتدبير التي تعلمها هو وزوجته في مصر – وهنا رح يسأل ويناقش زُملائه في قضية النفايات والأزمة البيئية فالقمامة المتزايدة دليل على الإفراط في الإستهلاك وأن هذا سيودي بالبشرية جمعاء، فكانوا يعتبرون ذلك حسدًا من شخص من العالم الثالث، ومع مرور الوقت – في السبعينات – اتضح أن شكوك المسيري كانت في مكانها حيث بدأت المُشكلة البيئة بالتفاقم فعلًا!
مصدر الصورة: موقع رام الله الاخباري
من الأخلاق التقليدية.. إلى الإنتفاضة!
المُشكلات البيئية ليست في أمريكا ولا في الغرب فقط، فهي حاضرة في بلادنا ونراها كُل يوم حولنا وللمسيري تحليلات كثيرة يكشف من خلالها كيف يُمكن للمورث الثقافي و"الاخلاق التقليدية" أن تحدث فرقًا في التعامل مع موضوع كموضوع النظافة والقمامة، وأبرز مثال على ذلك هي ـمشكلة «سلم العمارة القذر» والتي يقول فيها: "معظم المصريين يحافظون على مستوى عالٍ من النظافة داخل شققهم، وهذا جزء من منظومتهم الأخلاقية التقليدية، أما خارجها فمباح، ويتحول إلى "ملقف" للقمامة." وهو ما نُلاحظه في المساجد حيث هناك "تناقض في سلوك الناس داخل المسجد وخارجه".
دور الأخلاق التقليدية والموروث الثقافية يتجلى عند المسيري بشكل أوضح في تأملاته للانتفاضة، فقد أولى اهتمامًا خاصًا بالانتفاضة الفلسطينية ورأى فيها الكثير من التجليّات لنموذج التدوير كونها لم تستورد الأفكار ولا الأسلحة وهو ما يذكره بالتفصيل في كتابه "اللغة والمجاز" حيث يذكر كيف كان البعض يصنع الكلاشينكوف من بعض الأسلاك ومواسير الري أو يصنع وسائلَ لمقاومة القنابل المسيلة للدموع من خلال نقع ورق التواليت بالكولونيا. هذا غير أحاديثه المتكررة عن الحجارة الفلسطينية كسلاح بسيط ومتوفر وقابل للتدوير أو حتى "سلاح البطيخة" التي ابتكرها الفلسطينيون بعد أن مُنعوا من رفع العلم الفلسطيني.
نموذج الانتفاضة، بالنسبة للمسيري، هو نموذج يصلح لتطوير وتنميه المجتمعات العربية، فملامح الانتفاضة كما جاء في كتاب "حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري" تتجسد عنده أيضًا في تجربة الدكتور حامد الموصلي الذي توصل بعد عدة سنوات من التجريب إلى طريقة لصنع الخشب من مُخلفات شجر النخيل باعتبار أن الدول العربية ليس فيها غابات ولا بد من ابتكار خشب متصالح ومتوازن مع ظروف البيئة العربية، فبدلًا من حرق المخلفات يُمكن تدويرها لتحويلها إلى أخشاب متينة.
وعلى سيرة التصالح مع البيئة، فقد صمم المسيري لنفسه قميصًا يتفق مع أوضاع بلادنا البيئية، فالقميص لا رقبة له والتي لا لزوم لها في بلادنا كما أن القميص مفتوح من الأمام مثل الجلابية وبه جيبان كبيران أسفل القميص وجيب صغير في النصف الأعلى، وليس الأمر ينحصر بالنسبة له في القميص، فقد عكف المسيري مع مجموعة من العلماء على تطوير ما يُسمى بـ "فقه التحيز" لدراسة التحيّزات في المعارف الغربية والإشكاليات الكامنة فيها في مُحاولة لخلق "حداثة بديلة" أو "حداثة إنسانية" كما يُحب المسيري أن يسميها والتي لا تحترم الإنسان فقط وخصوصيته الثقافية بل تراعي بيئته وتحرص على عدم الضرر بها.
في الختام، إن الاستهلاك ليس مُشكلة فرديّة ولا يُمكن أن تكون كذلك، فالهدف من نشر الثقافة الاستهلاكية هو تقويض الإنسان، وفي فلسطين فإن تشجيع الاستهلاك وإنشاء عدد كبير من البنوك والشركات الاستثمارية يُمكن أن يشبع الحاجات الاقتصادية للفلسطينيين ويساهم في إغراق هويتهم، الأمر الذي يؤدي إلى استغراقهم فكريًا في أمور الدنيا والمال، بدلًا من قضايا الوطن والأرض الهوية. ولهذا فإن الانتفاضة وما حملته من أفكار في "التدوير" يُمكن أن تُشكل نموذجًا يصلح لتطوير وتنميه المجتمعات العربية.