تنساب المياه العكرة الصفراء من الصنبور في قسمي الأمراض الباطنية والصدرية بمجمع الشفاء الطبي الذي يُعد أكبر مؤسسة صحيّة في قطاع غزة . وعد المسؤولون بمتابعة القضية. لكن، حتى كتابة هذا التقرير لم يطرأ اي تحسن على حال المياه ولونها، فلا يزال تذمر وعدم رضى المريضات سيد الموقف. الفحص الميكروبيولوجي لعينات المياه بين خلوها من أي ملوثات ميكروبيولوجية، لكن لون الماء في الصنبور الذي يميل للصفرة والحمرة يشير إلى احتمالية وجود تلوث بأكاسيد الحديد. التركيز المرتفع لأكسيد الحديد في المياه، وبشكل تراكمي، وبوجود عوامل وتفاعلات كيميائية أخرى في الجسم، قد يفاقم أو يزيد (بشكل غير مباشر) من مرض السرطان. مصدر متخصص من المشفى وصف الوضع بأنه كارثي، وأن هناك إهمالا من قبل ادارة المشفى للخدمات المقدمة للمرضى، وأن عملية صيانة شبكات المياه لا تتم بشكل دوري. وزارة الصحة أكدت بأنها ستستبدل اجزاء الشبكة الرئيسية القديمة بأنابيب جديدة مصنوعة من البلاسيتك المخصص لتوزيع مياه الشرب. |
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
التحليل الميكروبيولوجي لعينة المياه في مشفى الشفاء |
قادتني الصدفة لزيارة إحدى المريضات في قسم الأمراض الباطنية في مشفى الشفاء، دعتني الحاجة أن افتح صنبور الماء لغسل يداي، انتظرت لحظات كي تصفو المياه العكرة ولكن دون جدوى، سألت المريضة، هل يمكن أن يتغير لون الماء بعد فترة؟ أجابت: " من يوم ما اجيت المستشفى من خمس ايام وهو على نفس الحال".
من هنا، كصحفية استوقفتني القضية ونضجت فكرة اجراء هذا التقرير، بعد أن تقاطرت شكاوي المريضات، من سوء لون المياه، ونفورهن منها، وتكررت ذات الشكوى من المرافقات لهن اللواتي يُعانين الكثير جراء ذلك.
تابعت هذه القضية على مدار أربعة شهور ونيف عبر الزيارات المتكررة، لعلّ وعسى أن يطرأ أي تغيير على وضع المياه وتزول العكارة، وقد آثرت قبل إجراء هذا التقرير، أن اعطي فرصة للمسؤولين في المشفى بعد أن وصلتهم صورة قمت بتصويرها لانسياب المياه العكر من الصنبور، ووعدوا بمتابعة الوضع.
لم يطرأ أي تحسن
مرت أيام وأشهر ولم يتغير الحال، وما يحدث أن عدداً من المريضات ممن يوصفن -بميسوري الحال- يصطحبن معهن زجاجات المياه المعدنية، لاستخدامها في غسل الأدوات والخضار والفاكهة والأيدي، وفي أحايين أخرى لغرض الوضوء والاستحمام، ولكن المعظم لا يمتلك القدرة الشرائية لابتياع زجاجات المياه المعدنية، فلا يجدنَ سبيلاً سوى التعامل مع الموجود.
"أم محمد" إحدى المريضات التي دفعها مرضها إلى المبيت داخل قسم الأمراض الباطنية، تحدثت عن سوء المياه التي أحدثت لها صدمة حينما وقعت عينها على لونها، تقول:" طلبتُ من زوجي أن يصطحب "جالون" متوسط الحجم يتسع لنحو (20) لتراً لاستخدامه في قضاء احتياجاتي من الماء، وكل يوم يقوم بتعبئة "الجالون" بالمياه العذبة المفلترة.
يُعد مجمع الشفاء الطبي أكبر مؤسسة صحيّة في القطاع، أنشا عام (1946) ويضم ثلاث مستشفيات عامة، مستشفى الجراحة العامة، الباطنية، ومستشفى النساء والتوليد، تبلغ قدرته السريرية الإجمالية (564) سريراً، ويقدم الخدمة لأكثر من نصف مليون ونيف في محافظة غزة ومحيطها، ويبلغ عدد الطواقم الطبية العاملة (1440) موظفا في جميع التخصصات.
للتحقق من صحة المياه وجودتها وسلامتها من أية تلوث خاصة للمرضى، قامت معدة التقرير بإجراء تحليل (ميكروبيولوجي) في إحدى المختبرات المعتمدة للتأكد من سلامتها، حيث أثبت التحليل أن المياه لا تشتمل على أي تلوث ميكروبولجي، غير أن لون المياه غير نقي ومُعكر، كما أجرت تحليلا( كيميائيا) لعدد من العناصر منها النترات وأثبتت النتيجة المخبرية بأن المياه جيدة، ولكن بقي اللون هو المشكلة لدى المرضى.
المياه الملوثة في مشفى الشفاء
الصورة أبلغ من المختبر
الخبير في شؤون المياه والصحة "د. أحمد حلس" شكّك في صلاحية وسلامة المياه من التلوث الكيميائي، بقوله: "الصورة أبلغ من أي مختبر" خاصة وأن لون المياه يميل إلى الحمرة، وهذا يعطي مؤشراً بأن المياه ملوثة بأكاسيد الحديد والتي لها آثار على الصحة الجسدية والنفسية في آن واحد.
ونوه أن خلو العينة التي جرى فحصها من التلوث الميكروبولجي لا يعطي دليلاً قاطعاً على سلامتها للاستخدام الآدمي، ومن المفروض أن يُعطى المريض مثالاً للصحة والالتزام بالمعايير الصحية، فكيف تكون وزارة الصحة مصدراً للمشكلات الصحية؟، خاصة وأن المريض أكثر حساسيةً وعُرضةً من غيره للأمراض.
وأوضح "حلس" أن الماء يجب أن يكون صحياً قبل أن يكون آمناً، وأن المياه الآمنة لا تعني بالمطلق أنها صحيّة، فالماء الصحيّ هو الماء الخالي من أي تلوث ويحتوى على العناصر والمعادن بالقدر المعقول، وأن العين المجردة وبأبسط الطرق يُمكنها تحديد إن كان هذا الماء صحياً من خلال صفاته وخواصه الطبيعية الملازمة له (بلا طعم أو لون أو رائحة أو عكارة) وهو الماء الطهور الخالي من الشوائب والعلائق.
مؤشر للتلوث
ونبه أن لون الماء في الصنبور الذي يميل للصفرة والحمرة حسب التحليل الميكروبيولوجي يعطي مؤشراً بأنه ملوث بأكاسيد الحديد وهو من أحد الاسباب المؤدية الى السرطان في حالة وجوده بدرجة كبيرة، منوهاً أن أي زيادة في نسبة العناصر لا يصّح التعامل معها بهذا الشكل.
ويتابع ان هذا الماء لا يجوز استخدامه إلا في أضيق الحدود كاستخدامه في المرحاض وغسيل ارضيات الحمامات، ناصحاً بعدم استخدامه في غسل الايدي والأدوات والخضار والفاكهة أو الوضوء، بعيدا عن نتائج كل المختبرات.
وقال: "لدي إيمان مطلق بأن الماء اذا تغير لونه وصفاته، لا يصلح للاستخدام ويجب التوقف عن استخدامه فورا بإيقاف ضخه من مصدره، ويجب البحث عن مصدر التلوث سواء كان في الحنفيات المستخدمة اذا كانت من الحديد واستبدالها بالبلاستيك، او الخزانات، وفحص مياه البئر المغذي لمشفى الشفاء، وتغيير الشبكة".
واعتبر أنّ الفلترة لا تجدى نفعا في حال كان مصدر التلوث من الخزان الجوفي مؤكدا أن المشكلة بحاجة لحلول جذرية، وليست ترقيعية، بوقف ضخ المياه للمرضى، وانشاء محطة تحلية خاصة للمشفى مع الفلترة ومعالجة المياه بشكل صحيح وفحصها بشكل دوري ضمن المعايير المعمول بها، مكررًا بأن الحل يكمن في تحديد مصدر التلوث وانهائه سواء كان من البئر أو الشبكة أو الصنابير.
22 معيار
الناشطة "يسر الاطرش" قالت إن منظمة الصحة العالمية حددت(22) معياراً لمياه الشرب الصحية تضم (المكروبيولوجية، الفيزيائية والكيميائية والحسية).
فمن الحقوق الراسخة للإنسان حق الوصول الى المياه وأن تكون هذه المياه صحيّة خالية من أي تلوث، وهذه المعايير تحقق ضمان هذا الحق.
في الحالة التي يتم عرضها كالمياه المنسابة من الصنابير المكتسبة للون البرتقالي (الصدأ) والذي يُرجّح أنها تحتوي على أكسيد الحديد الذي يكسب الماء هذا اللون، فيعود الى أكسدة حديد الصنابير أو الأنابيب.
وتعتقد " الاطرش" أن هذه الصنابير والشبكات تفتقد إلى الصيانة الدورية، ما أدى الى وجود هذه اللون المُنفر للمواطن، خاصة المرضى منهم الذين يعانون من ضعف المناعة نتيجة اصابتهم بالأمراض المزمنة، عدا عن الطعم غير المستساغ في حالة استخدامه لغرض الشرب.
وتضيف يجب ألا يقل لون المياه وفق معايير الصحة العالمية عن (50 وحدة) بمقياس الكوبالت البلاتيني أما الطعم فيجب أن يكون مقبولاً مستساغاً، أما الرائحة فإن الماء الصحيّ المخصص للشرب لا رائحة فيه، أما العكارة فيجب أن يكون الماء صافياً، فالحد الأقصى للعكارة في المياه المعالجة (5 وحدات)، وفي المياه الجوفية (52) وحدة مقاسة بجهاز جاكسون.
تتابع لا يوجد اجماع قطعي للضرر الناجم عن اكسيد الحديد والحديد حيث تستخدم طبيا، ولكن في حالة وجدت أكاسيد وأملاح الحديد قد تُسبب مشكلات في الجهاز الهضمي كعسر الهضم والإمساك.
أما بالنسبة لأكسيد الحديد اذا تم استنشاقه فإنه يسبب ضيقاً في الصدر وصعوبة التنفس والسعال، ومن المحتمل في هذه الحالة أن يكون مسبباً للسرطان في حالة وجود عوامل اخرى مساعدة.
ولقطع الشك باليقين يجب عدم استخدام هذه المياه لضررها في حال الاستخدام المتكرر لها.
في حين يعزو مدير عام الارشاد في وزارة الزراعة المهندس "نزار الوحيدي" انخفاض جودة المياه في مشفى الشفاء خاصة في قسمي الأمراض الباطنية والصدرية الى وجود مشكلة في التيار الكهربائي، الذي يمنع انسياب المياه وتدفقها بشكل مستمر داخل الشبكة، ما يعطي مجال ومساحة للملوحة وتغير لونها واختلاطه بأكاسيد الحديد الذي يعطي اللون الأحمر، وان كانت بنسب مقبولة.
لكن المهندس الوحيدى لم يبرر تقديم خدمة بجودة منخفضة للمرضى في المشافي، مشدداً على ضرورة السعي والاجتهاد لتحسين مستوى الخدمة اللائقة بالمريض، من خلال اتباع عدة آليات وسلوكيات صحية من شأنها أن تحسن تلك الجودة وتُقابَل بحالة من الرضا للمواطن والمريض على حد سواء، منها على سبيل المثال: الاهتمام باستخدام الفلترة وكلورة المياه المستخدمة في غسيل الأدوات، وغسيل مستلزمات الأسّرة، وغيرها، ناهيك عن المتابعة الدورية لشبكات المياه.
حق انساني
الناشط القانوني والحقوقي في الهيئة المستقلة لحقوق الانسان ومنسق قسم الشكاوي بكر التركمان أكد على ضرورة تمتع المواطن بأعلى مستوى من الصحة كأحد الحقوق الأساسية التي كفلها القانون الدولي دون تمييز على أساس الجنس او المعتقد أو الحالة الاجتماعية والاقتصادية، كما حضّ القانون الأساسي الفلسطيني على تلك الحقوق، فيما أكد كذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان أن لكل انسان الحق في التمتع بمستوى لائق من المعيشة والرعاية الصحية.
وأضاف "التركمان" في ذات الشأن أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والاقتصادية في مادته (12) حثّ على ضرورة التمتع بالصحة النفسية والجسدية والعقلية في كل الجوانب الصحية البيئية والصناعية.
فيما أكد قانون الصحة العامة لعام (2004) على مجموعة من الجوانب الصحيّة والتمتع بمستوى لائق ومُرضي للخدمات الصحية، وفي مقدمتها مراقبة الوضع الصحي والاشراف على شبكات الصرف الصحي واعطاء الاولوية للرعاية الصحية للمرأة والطفل كجزء من الاستراتيجية الانمائية للسلطة الوطنية الفلسطينية وليس فقط تقديم الخدمة ولكن تَجويد مستوى الخدمة المقدمة خاصة للمرضى كي تلقى القبول وضمان الصحة.
ونوه أن الهيئة لم تتلقَ اي شكاوٍ لها علاقة بالمياه مباشرة ولكن لها علاقة بالأخطاء الطبية وسوء الخدمة المقدمة.
إهمال واضح
مصدر متخصص رفض الكشف عن اسمه من مشفى الشفاء وصف الوضع بأنه كارثي، وأن المياه الواصلة للمشفى كونها قريبة من مياه البحر تكون على درجة عالية من الملوحة، وأن هناك إهمالا واضحاً من قبل ادارة المشفى للخدمات المقدمة للمرضى، وأن عملية صيانة شبكات المياه لا تتم بشكل دوري، بل وقت حدوث الخلل فقط.
وتابع أن مشكلة المياه غير مرتبطة بشكل مباشر بالتيار الكهربائي لأن المشفى يعتمد على ثلاثة مولدات كبيرة تحتاج يوميا لنحو( 1200) لتر سولار ولكن ما يجرى هو تقليص كمية السولار، وهناك تعتيم يجرى داخل المشفى وقمعٍ للمسؤولين الذين يحاولون إيصال الحقائق والمعلومات الدقيقة للإعلام.
وأضاف ذات المصدر أن هناك بعض المتبرعين من الخارج كانوا قد زاروا بعض الأقسام ووعدوا بتقديم مساعدات لترميم وصيانة القسم بشكل كامل، ولكن أُجهض هذا المشروع نتيجة الخلاف على كيفية ايصال وصرف الأموال المخصصة للمشروع وتدخل متنفذين، فلم ير المشروع النور.
وتابع أن هناك مشروعاً آخر جرى الحديث حوله لإنشاء محطة تحلية تم اجهاضه لنفس السبب، ما أثر على مستوى الخدمة المقدمة للمريض، وكان للانقسام دور في تردي هذه الخدمة وغياب الادارة الرشيدة.
من المهم الإشارة إلى أن إثارة هذه القضية عبر وسائل الإعلام جاء من منطلق المسؤولية، وأمانة حملتها كصحفية بطلبٍ من المريضات لإيصال الحقيقة للمواطن والمريض على حد سواء، بهدف معالجتها وتحسين مستوى الخدمة المقدمة للمريض كأحد الحقوق الأساسية التي نصت وكفلتها القوانين الوطنية والدولية.
بعد نشر المجلة التقرير بأيام، تابعت وزارة الصحة في القطاع القضية، وجاء ردها التوضيحي كالتالي:
توضيح من الأستاذ أيمن الرملاوي مفتش صحة بقسم مراقبة المياه بوزارة الصحة
تابع قسم مراقبة المياه بوزارة الصحة المشكلة المذكورة وبحث عن مسبباتها، وقد تبين بأن اللون المائل للاحمرار في المياه هو نتيجة عدم ثبات درجة الحموضة (pH) في المياه الناتجة عن محطة التحلية المركزية التي تغذي كافة اقسام المستشفى، بالإضافة الى وجود بعض الأجزاء المهترئة من الشبكة؛ إذ أن انخفاض درجة الحموضة و بقاء المياه المحلاة في هذه الشبكة لفترات وايضا وجود بعض التسريب في هذه الانابيب الموجودة تحت الارض ربما يؤدي الى خلل واضح وتغير لون المياه.
نشير هنا بأن لون المياه المائل للاحمرار يختفي مباشرة بعد ثوان معدودة من فتح الصنبور، ما يؤكد ان المشكلة في اللون ليست طوال 24 ساعة كما يعتقد البعض.
وقد تم التأكد أيضا من خلال الفحص الميكروبيولوجي بأن المياه خالية تماما من أي ملوثات بكتيرية نظرا لتعقيم المياه مسبقا بمادة الكلور، ما يمنع فرصة وجود وتكون مستعمرات بكتيرية في هذه المياه.
ومن خلال التحري عن سبب المشكلة، نفى العاملون والمرضى وأيضا الزائرون بأنهم يعتمدون على هذه المياه لأغراض الشرب.
من ناحية اخرى، نؤكد بأنه لا يمكن من خلال النظر الحكم بوجود أكاسيد الحديد في المياه، وبالتالي لم يثبت بأن اللون المائل للاحمرار هو نتيجة أكاسيد الحديد كما يفسر البعض. علاوة على ذلك، لم يثبت علميا بأن أكاسيد الحديد تتسبب مباشرة في مرض السرطان، بحيث تم التواصل مع أكثر من مرجع عربي وأجنبي وأجمعت كلها أن أكاسيد الحديد قد تفاقم أو تزيد مرض السرطان، لكنها ليست هي السبب الرئيسي لهذا المرض.
ولدى فحص المياه في مختبر الصحة العامة المعتمد في قطاع غزة لدى الوزارة ولدى العديد من المؤسسات والجهات الاخرى، لم يثبت بأن التلوث الميكروبيولوجي هو سبب تكون اكاسيد الحديد في المياه .
وللحد من هذه المشكلة والقضاء عليها، بادرنا (في قسم مراقبة المياه) بالمتابعة مع دائرة الهندسة والصيانة في المستشفى، وتم وضع الحلول الضرورية لإنهاء هذه المشكلة. ويتمثل الحل بالدرجة الاولى في تثبيت درجة الحموضة عند قيمة 8)) أو أعلى من ذلك، لضمان عدم تحول المياه الى وسط حمضي، خاصة مع نزع الاملاح بصورة كبيرة داخل محطة التحلية. وأيضا تغيير الاجزاء المهترئة من الشبكة والتحقق من عدم وجود أي تسريبات في انابيب المياه المدفونة تحت الارض.