تصورات وأوراق فلسطينية طرحت في السنوات الأخيرة وتضمنت أفكارا حول كيفية التكيف مع التغيرات المناخية في السياق الفلسطيني. وإجمالا، لم تربط هذه الأطروحات ربطا عضويا جدليا مسألة التغيرات المناخية بالواقع الاقتصادي-السياسي الفلسطيني في ظل احتلال استيطاني اقتلاعي مدمر للتوازنات الإيكولوجية. إن تعزيز قدرة الشرائح الشعبية الفلسطينية على مواجهة التحديات المناخية والاقتصادية-السياسية الخارجية والداخلية، يتطلب من الجهات الرسمية والحكومية والأهلية المعنية، وعلى وجه السرعة، العمل على بلورة استراتيجية واضحة لمواجهة الأزمة المناخية؛ بما في ذلك إرساء رؤية علمية-بحثية وتكنولوجية متماسكة تدعم تلك الاستراتيجية. الأمر الذي يتطلب تطوير الأبحاث التي تصب في تعزيز الأنماط الإنتاجية قليلة المدخلات الخارجية. يبين هذا المقال كيف أن الزراعة الفلاحية التقليدية لا تتعارض مع العلوم والأبحاث المتقدمة؛ إذ أن دمج العلم في الزراعة التقليدية الصغيرة يمثل تحديا لكنه ممكن.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
أراض جافة وشح مائي هائل في الأغوار الفلسطينية بسبب النهب الإسرائيلي للمياه وعوامل مناخية |
طُرِحَت في السنوات الأخيرة بعض التصورات والأوراق الفلسطينية التي تضمنت أفكارا حول كيفية التكيف مع التغيرات المناخية في السياق الفلسطيني. وإجمالا، لم تربط هذه الأطروحات ربطا عضويا جدليا مسألة التغيرات المناخية بالواقع الاقتصادي-السياسي الفلسطيني في ظل احتلال استيطاني اقتلاعي مدمر للتوازنات الإيكولوجية. بمعنى، نحن الفلسطينيون الرازحون تحت احتلال استيطاني إجلائي بشع، بحاجة إلى بلورة سياسة قائمة على منهج مواجهة التحديات المناخية (تسمية مجازية لمفهوم: (resilience التي تؤثر فيها وتتأثر منها التحديات الاقتصادية-السياسية. الهدف الجوهري لهذا المنهج هو تعزيز قدرة المجتمع على التعلم من نتائج التغيرات المفاجئة، وبالتالي تعديل الأهداف والتدخلات.
يضاف إلى ذلك، أن الاستعداد للمفاجآت، في ظل منهج القدرة على المواجهة، يتطلب إبداء تسامح مع الخسائر قصيرة الأمد. نهج مواجهة التحديات يمنح الأولوية لعمل النظام على المدى الطويل. وفي حين أن مقاربات التكيف (adaptation) وسرعة التأثر ((vulnerability تنحاز لحساسيات وانكشافات الجيل الحالي، فإن مقاربة المواجهة تتطلب نظرة عابرة للأجيال.
وحيثما تكون أشكال الحكم معيقة للمشاركة المجتمعية الفعالة ومحبطة لممارسات التسيير الاجتماعي المشترك، فإن القدرة المحلية على مواجهة التحديات تميل إلى التدني، كما أن القدرة على التكيف تكون محدودة. وفي المقابل، النظام الاجتماعي-الإيكولوجي الأكثر قدرة على المواجهة يعمل بطريقة متعددة المحاور، وفي سياق واضح لاتخاذ القرار، حيث أن المعرفة والإنتاج والتعلم يتميزون بالديناميكية، كما أن مخزون رأس المال الاجتماعي يعزز أواصر الثقة.
التدخلات القائمة على مقاربة مواجهة التحديات، مصممة أساسا لتعزيز سمات نظام معين، بحيث يتجنب "الشقلبة" المفاجئة في النظام الإيكولوجي-الاجتماعي المزدوج، نحو حالة غير مرغوب بها. إن رصد قدرة النظام على مواجهة التحديات، أو بكلمات أخرى، رصد قدرة نظام مزدوج على مواصلة العمل لمواجهة التغير، أو التحول إلى نظام مُحَسَّن- إن هذا الرصد يتم من خلال مراقبة مدى القدرة على التجربة والتعلم، ورصد أي اضطراب مستجد، والتنظيم الذاتي في سياق الرد على الضغوطات غير المتوقعة.
إن مقاربة القدرة على مواجهة التحديات، لإدارة الموارد الطبيعية، نابعة من النظرية الإيكولوجية في السبعينيات، والهادفة إلى التصدي بشكل أفضل لديناميات النظم الإيكولوجية غير الخطية والمفتقرة بقدر كبير إلى اليقين. السياسة المستندة إلى القدرة على مواجهة التحديات، تركز أساسا على القدرة التراكمية للنظام على الضبط والاستجابة.
ويتميز هذا النهج بارتكازه على الفرضية الأساسية القائلة بأنه على المدى الطويل، لا يوجد مفاضلة بين التكامل الإيكولوجي ورفاهية الإنسان؛ بل إن الاستدامة تتحقق فقط من خلال تصور النظام الاجتماعي-الإيكولوجي المتكامل والمترابط عبر الزمن. السياسة التي تسترشد بمقاربة القدرة على مواجهة التحديات، تنطوي على تسامح كبير إزاء التغيرات والتقلبات والخسائر الموضعية الآنية لصالح فائدة أكبر في تكامل النظام.
التدمير الإسرائيلي المنهجي للأراضي الزراعية الفلسطينية من خلال الجدران الاستعمارية والمستوطنات ومصادرات الأراضي ونهب المياه
تعزيز الأنماط الإنتاجية قليلة المدخلات الخارجية
إن تعزيز قدرة الشرائح الشعبية الفلسطينية على مواجهة التحديات المناخية والاقتصادية-السياسية الخارجية والداخلية، يتطلب من الجهات الرسمية والحكومية والأهلية المعنية، وعلى وجه السرعة، العمل على بلورة استراتيجية واضحة لمواجهة الأزمة المناخية؛ بما في ذلك إرساء رؤية علمية-بحثية وتكنولوجية متماسكة تدعم تلك الاستراتيجية. كما من الضروري أن يتزود الفلسطينيون بالمعدات والآليات اللازمة لقياس مدى تلوث الغلاف الجوي، فضلا عن محطات الرقابة المختصة بتقدير الأخطار الناجمة عن ملوثات الهواء، وبالتالي بلورة الخطط والسياسات والإجراءات الضرورية لمواجهة التلوث الهوائي والتغير المناخي الذي قد ينجم عنه.
وبما أن الاستخدام الكبير لمدخلات الإنتاج الخارجية في الوحدات الزراعية يرفع مستوى انبعاث أول وثاني أكسيد الكربون، ويزيد بالتالي استهلاك الطاقة الأحفورية التي يتحكم بها الاحتلال الإسرائيلي؛ فيفترض العمل على تعميم التقنيات الزراعية التي تقلل المدخلات الخارجية، من خلال إعادة الاستعمال والتدوير والإدارة الفعالة لمواد ومعدات المزرعة والطاقة، بما يؤدي إلى الحفاظ على وتحسين جودة البيئة وحماية الموارد الوطنية؛ الأمر الذي يتطلب تطوير الأبحاث التي تصب في تعزيز الأنماط الإنتاجية قليلة المدخلات الخارجية.
ومن البديهي أن الاستقلال في الإنتاج الزراعي والغذائي يشكل شرطا أساسيا لتحقيق السيادة على الغذاء؛ لذا، ولإنجاز هذا الاستقلال لا بد من تشجيع الأنماط الإنتاجية المرتكزة أساسا على مخزون المعارف والتجارب والخبرات المحلية وتطويرها، وذلك من خلال ابتكار تقنيات زراعية طبيعية وحيوية صديقة للبيئة، وتحفيز الطاقات الشبابية والأكاديمية على البحث العلمي المستند إلى تجارب وتطبيقات المنتجين والمزارعين أنفسهم، وبخاصة في مجالات الري ومعالجة المخلفات الزراعية والعضوية والسائلة، وتحسين نوعية البذور المحلية والبلدية وإكثارها، وغير ذلك. وبالطبع، مثل هذا التوجه يتناقض مع استمرارية التبعية للغذاء الإسرائيلي والأجنبي.
إن تطوير العملية الزراعية استنادا إلى الموارد والإمكانيات والممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية، يعد لب مفهوم الزراعة البيئية.
وحيث أن الأنماط الزراعية القائمة على قاعدة "اقتصاد السوق" ومدخلات الإنتاج الخارجية الكبيرة التي يروج لها العديد من الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين، قد تم تطويرها أصلا في المجتمعات الغربية، لتتلاءم مع مناخات وأنماط زراعية مختلفة عن فلسطين وسائر بلاد الشام ولا علاقة لها بالحاجات الحقيقية لمزارعينا؛ فإننا نجد غياب التوجه نحو الموارد والإمكانات المحلية، وتغييب للممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية الحكيمة والغنية التي اكتسبها وطورها مزارعونا القدامى. كما نجد غياب الاهتمام بالمحاصيل والبذور المحلية الأصيلة والحيوانات البلدية؛ علما أن البحث الزراعي الرسمي غالبا ما يركز على دعم المزارعين الميسورين والقادرين على شراء التقنيات والمستلزمات الزراعية "الحديثة" التي ليس بمقدور معظم المزارعين الحصول عليها، فضلا عن كونها غير مناسبة للزراعات البعلية والبلدية ذات المدخلات الخارجية المنخفضة.
وهنا بالذات تكمن مشكلة العديد من "الخبراء" والمهندسين الزراعيين، من حيث تأثرهم الشديد بالمناهج التعليمية والكتب الجامعية الغربية التي درستهم الزراعة على قاعدة "اقتصاد السوق"، والمدخلات الخارجية الكبيرة، من كيماويات وبذور مهجنة ومياه ري وغيرها.
الزراعة الفلاحية التقليدية لا تتعارض مع العلوم والأبحاث المتقدمة؛ إذ أن دمج العلم في الزراعة التقليدية الصغيرة يمثل تحديا لكنه ممكن. الزيادة الكبيرة في الممارسات العضوية وشبه العضوية تتطلب قدرا أكبر من البحث العلمي والتدريب الهادفين إلى تحقيق فهم أفضل لكيفية عمل الأنظمة الإيكولوجية-الزراعية. فعلى سبيل المثال، لا بد من البحث في أوجه التكامل الوظيفي للحشرات المختلفة بهدف تحسين المكافحة الطبيعية للآفات. كما لا بد من تعميق معرفتنا بخصائص وبنية التربة وديناميات إعادة تدوير المغذيات، بهدف إرشاد المزارعين نحو أفضل الاستخدامات لأنماط الزراعات المتداخلة والدورات الزراعية والنباتات المثبتة للنيتروجين والأسمدة الخضراء، لتحسين خصوبة التربة.
وهنا لا بد من التأكيد على أن المخصبات والأسمدة الكيميائية لا تعد جزءا من الحل للجفاف والتصحر اللذين تعاني منهما منطقتنا، بل هي جزء من المشكلة؛ لذا لا بد من التركيز على الحل البيئي الكامن في الإنتاج الذاتي للأسمدة العضوية أو توزيعها على المزارعين، إذ أنها تزود التربة الفقيرة غذائيا والجافة بالمادة العضوية وبالكائنات الدقيقة التي تفتقر إليها بسبب حالة الجفاف والتصحر التي تعاني منها، وفي المحصلة ستتحسن خواص التربة وخصوبتها.