فن حرق النفايات .. في ألمانيا!
خاص بآفاق البيئة والتنمية
مهما قيل ويُقال عن إعادة التدوير في ألمانيا، وشعبها الذي يُقال بأنه "رقم 1 في فصل النفايات" فإن الواقع مُختلف نوعاً ما عمّا نسمعه ونراه في الإعلام، وشخصيًا لم أتخيّل يومًا حجم المُبالغات في التقارير التي تُكتب حتى بدأت دراستي للهندسة البيئية، والحقيقة أنني لم اتأكد من كُل ذلك وأدرك أبعاده حتى قُمت بنفسي بزيارة "محرقة النفايات" في مدينة كُولونيا (köln)، والتي تُعتبر من أفضل "المحارق" على مستوى ألمانيا بل والعالم!
عندما نتحدث عن "محرقة للنفايات" والتي تُسمى بالألمانية "Müllverbrennungsanlage" فإننا لا نتحدث عن ساحة ضخمة تُجمع فيها النفايات فتشعل فيها النيران بكل عشوائية ودون مُبالة كما يحصل في بلادنا، بل نتحدث عمّا يُمكن أن يصنف علميًا ضمن "المعالجة الحراريّة للنفايات"، والتي تُصنّف بحسب قانون النفايات الألماني بمثابة "إعادة تدوير حراريّة"، وهي مختلفة تمامًا عن "اعادة التدوير Recycling"، ولكنهم رغم ذلك يُسمونها "اعادة تدوير" وليس "حرق" كنوع من التلاعب بالمصطلحات.
هذا التلاعب، لا يعني بالضرورة أن المُعالجة الحرارية سيئة وغير "صديقة للبيئة" كما قد يُروّج لها أحيانًا، فالكثير من الخبراء والمهندسين العاملين في مجال "اعادة التدوير Recycling " يؤكدون أنه لا تزال تحديّات كبيرة تواجههم وبالتالي فالكثير من النفايات التي تُفصل – في بلد مثل ألمانيا – يستحيل إعادة تدويرها لمواد خام بديلة، وليس لها حلٌّ إلا "الحرق".
وفي جولتنا وبالأخص حينما دخلنا إلى غرفة التحكم المُطلة على "الخندق" الممتلئ بأكوام هائلة من النفايات التي تمّ تصنيفها بأنها غير قابلة لإعادة التدوير، وكان واضحاً أن نسبة كبيرة من النفايات فيها بلاستيكية، عللت المتحدثة الأمر بأن النفايات لا يتم إعادة تدويرها إلا إذا تحقق فيها عدّة شروط، أبرزها توفّر التقنيّة اللازمة لفصلها وتصنيعها من جديد، كما إمكانية إنتاجها بسعر معقول وإمكانيّة تسويقها لاحقاً والأكيد ألا تكون مُضرة للبيئة وللمستخدمين، وفي الواقع فإن الكثير من هذه الشروط تبدو تعجيزية أحيانًا ولهذا فالحل هو "الحرق"!
بعيدًا عن كل هذه التحديّات، فإن هذا النوع من "المحارق" وبكلمات أجمل "معامل مُعالجة النفايات حراريًا" بلغت من التقدم بحيث أن الغازات التي تخرج من مداخنها أنظف في كثير من الأحيان من الهواء الذي نستنشقه في المدن المكتظة وكمثال فقط فإن نسبة غاز ثاني اكسيد الكربون الخارج من مدخنة المعمل تساوي 1.8 ملغرام لكل متر مكعب من الهواء بينما النسبة الموصى بها هي 50 ملغرام.
وحتى عندما نتحدث عن الغازات الحمضيّة فهي ضئيلة جدًا، وتتم معالجتها بطرق خاصة تتيح للمصنع أن يحصل على "الجبص" والذي "يُمكن" استخدامه في أعمال الديكور والبناء في المنازل لاحقاً، ولنتخيّل فقط أنه ومن نفايات مدينة كولونيا الألمانية وحدها يُمكن انتاج 4000 طن من الجبص بعد معالجة الغازات الحمضيّة.
وليس هذا فحسب، فعمليّة حرق النفايات تُعيد الكثير منها إلى "رماد" أو "خبث" والذي يُمكن استخدامه كمواد بناء بديلة وفي تعبيد الطرقات والشوارع، هذا غير المعادن التي لم يتم فصلها بشكل جيد وحرقها وبالتالي يُمكن أن يتم فصلها بسهولة أكبر بعد معالجة "الرماد" و"الخبث"، ولنتخيّل فقط أن سعر النحاس مثلاً يصل أحيانًا إلى أكثر من 5000 يورو للطن وسعر الألومنيوم إلى أكثر من 1000 يورو وبالتالي فهناك فوائد جمّة لـ"حرق النفايات" وهي ليست سيئة جدًا!
الأسوأ في كل ما كُتب أعلاه، أنه لا يُجسّد إلا نصف الحقيقة، فالواقع أن أكثر الرماد لا يُسمح باستخدامه في تعبيد الطرقات وذلك لأنه يحتاج إلى معالجة قبل أن يخلو تمامًا من كل المواد "السامة" التي يحظرها القانون، وبالتالي فإن أكثر هذا الرماد يذهب إلى "الطمر"، كما أن المتحدثة باسم الشركة اكّدت بأنهم حاولوا تسويق الجبص ولكن الناس لم تتقبل الفكرة بتاتًا، مع أنه لا يشكو من أي مشاكل ويتوافق مع كل الشروط التي ينص عليها القانون، وأما بخصوص المعادن فإن الشركة قررت ألا تعالجه بنفسها وتعطيه لشركة أخرى تقوم هي بمعالجته وهي التي تستخرج المعادن وتجني الأرباح منها، لأن المعالجة نفسها معقدة ويمكن أن تؤدي إلى غبار وتلوث، لا حاجة للشركة به.
الأكيد، أن كُل هذه الحقائق لا تمنعنا بأن ننصف هذه التقنية ومميزاتها، بالأخص بعد مُشاهدة النيران الملتهبة وهي تلتهم النفايات بدرجة حرارة 1000 على سلم سيلزيوس، وهي حرارة بفضل الطاقة الكامنة بداخل النفايات نفسها، فالنفايات لها قيمة حراريّة مُعيّنة تصل إلى 11000 كيلوجول لكل كيلوغرام، هذا يعني ببساطة أن هذه الحرارة يُمكن أن تستغل في توليد الكهرباء، وبالفعل فإن النفايات التي تحرق في هذا المعمل ينجم عنها حوالي 300 مليون كيلوواط ساعة في العام، وهي كافية لتغطية حاجة 100 ألف منزل من الكهرباء، وبفضل تقنيّات متطورة فإن الحرارة التي لا تستغل في انتاج الكهرباء يتم استغلالها في انتاج البخار، وهو ما يتم نقله إلى المصانع المحيطة كي تستفيد منه.
ختامًا، حتى لو لم يكن لهذه المعامل أي فائدة في انتاج الكهرباء أو حتى في مجال "اعادة التدوير"، فإن أهميتها الأولى أنها تقوم بتقليص حجم النفايات بمقدار 85% من حجمها قبل "الحرق"، كما إزالة الروائح الكريهة والغازات الضارة منها، ولستُ بحاجة للإستفاضة في هذا، ويكفينا كفلسطينيين أن نقوم بزيارة إلى "دير مار سابا" وهو واحد من أجمل الأماكن السياحيّة في فلسطين .. كي نرى كم نحن بحاجة إلى معامل لمعالجة النفايات، حتى لو لم ندورها ولم نكتب في الصحف .. بأن لدينا Recycling !